نقولا ناصيفلم تكن زيارة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى دافيد ولش إلى بيروت، في الساعات الأخيرة، مفاجئة إلا للسياسيين اللبنانيين. منذ أيام عكفت السفارة في بيروت على إعداد ترتيبات إحياء الذكرى الخامسة والعشرين للانفجار الذي استهدف المقرّ القديم للسفارة في عين المريسة يوم 18 نيسان 1983 وأوقع عدداً كبيراً من الضحايا، بينهم أميركيون.
وتستعيد السفارة الذكرى في احتفال رسمي يشارك فيه ولش باسم إدارته، بالتزامن مع احتفال مماثل تقيمه الخارجية الأميركية، اليوم أيضاً في واشنطن، تبعاً للتوقيت الأميركي، وتترأسه وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، وتحضره شخصيات رسمية أميركية وأخرى لبنانية. وسيكون احتفال واشنطن كاحتفال عوكر مناسبة لإعادة تأكيد الإدارة الأميركية مواقفها حيال لبنان.
ومع أن إحياء الذكرى تقليد دوري، كل سنة، في مبنى السفارة تكريماً للضحايا الأميركيين، فإن مشاركة ولش فيها اليوم أكسبتها بعداً خاصاً يرتبط بمرور الذكرى الخامسة والعشرين للانفجار، كمناسبة إنسانية، أكثر منها بمهمة سياسية عاجلة نيطت بالدبلوماسي الأميركي.
مع ذلك، تشير مصادر واسعة الاطلاع ومعنيّة إلى ملاحظات مرتبطة بزيارة الساعات الأخيرة، وأبرزها:
1 ــ ربط الوجه الإنساني للزيارة بالدلالة السياسية حيال حادث هو الأول كعمل إرهابي ضخم يستهدف المصالح الأميركية الأساسية في لبنان، وأخصّها السفارة، بعد أشهر من انتخاب الرئيس أمين الجميل في مرحلة شهدت انقلاباً كبيراً في توازن القوى في لبنان، بين سوريا والفلسطينيين وحلفائهما من اللبنانيين وبين الفريق الآخر بزعامة «الجبهة اللبنانية» على أثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. لم يكن الاعتداء الأول بعد اغتيالات وأعمال خطف طاولت رعايا أميركيين منذ عام 1975، إلا أن تفجير السفارة استهدف حينذاك دوراً سياسياً وعسكرياً أميركياً في لبنان، عقبه في 23 تشرين الأول 1983 هجوم إرهابي آخر ضد ثكنة للجنود الأميركيين في مطار بيروت. كلا الانفجارين لم ينسهما الأميركيون، ولا غفروا لمن تسبّب بهما، علماً أن المسؤولية عن الانفجار الأول ظلّت غامضة، وقيل في الثاني إن الفاعل منظمة أصولية هي «الجهاد الإسلامي».
لم يفت الأميركيين أن يدرجوا حدوثهما في سياق مواجهة بينهم وبين السوريين في لبنان. بين الانفجارين حصل تطوران متلاحقان، هما: إعلان اتفاق 17 أيار في ذلك التاريخ وبداية خطة إسقاطه في حرب الجبل في 2 أيلول 1983 توطئة لعودة سوريا إلى حكم لبنان. والمفارقة أن أحد قادة حملة الإسقاط تلك هو أبرز حلفاء الأميركيين في لبنان اليوم، رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط. مع ذلك لم يحظَ انفجار 18 نيسان بما حظي به انفجار 23 تشرين الأول.
ومع أن حزب الله لم يكن قد ظهر إلى العلن في ذلك الحين، تتهمه واشنطن اليوم بأنه المسؤول عن الانفجار الثاني، ولا تلقي تبعة المسؤولية على أحد في انفجار 18 نيسان.
2 ــ لا توقيت سياسياً لزيارة ولش لبيروت رغم تصاعد وطأة الأزمة الدستورية والسياسية اللبنانية، واستمرار أبواب الحلول موصدة تماماً. إلا أن الدبلوماسي الأميركي انتهز مناسبة مشاركته في ذكرى دراماتيكية ليعيد تأكيد الموقف الأميركي من الوضع الداخلي في لبنان، وكي يكرّر، في لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين، نفي ما كان قد نسب إلى وزيرة الخارجية عن مواقف إدارتها من الانتخابات الرئاسية والنيابية.
ذلك أن ولش هو أحد ثلاثة شركاء في الإدارة المباشرة للملف اللبناني بتكليف من رايس، وشريكاه الآخران اللذان يرئسهما هما مساعده السفير السابق في بيروت جيفري فيلتمان وخليفته في السفارة القائمة بالأعمال ميشال سيسون. ولأن فيلتمان هو الأوسع إلماماً بالوضع اللبناني ودقائقه بفعل تجربته خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة، يظلّ الأكثر تماسّاً مع الملف اللبناني وقوى 14 آذار.
3 ــ رغم التكهنات التي أحاطت بالزيارة المفاجئة واعتبارها جسراً إلى رفع قوى 14 آذار لوتيرة مواقفها المتصلبة، فإن المطّلعين على مواقف المسؤولين الأميركيين من هذه الأزمة يشيرون إلى أن هؤلاء لا يأتون إطلاقاً على ذكر انتخاب رئيس جديد للبنان بالنصاب الذي تهدّد به الموالاة، وهو النصف الزائد واحداً.
ووفق المطلعين أنفسهم فإن هذا الموقف هو نفسه في الاجتماعات التقويمية للوضع اللبناني التي يجريها المسؤولون الأميركيون، وكذلك في اللقاءات مع المسؤولين والسياسيين اللبنانيين. وقد ربطوا باستمرار موقفهم المتشدّد بالإصرار على انتخاب رئيس جديد في أسرع وقت ممكن، ووضع حدّ للفراغ الدستوري بترك الخيار للبنانيين للاتفاق على طريقة إنجاز هذا الاستحقاق والتوافق عليه. تالياً يقول الأميركيون بتوافق اللبنانيين على الاستحقاق الرئاسي دون المغالاة في اقتراح أفكار ومخارج محدّدة لفرض انتخاب الرئيس الجديد.
بذلك يرمي الجانب الجديد من زيارة ولش إلى بيروت، وهو لقاءاته المسؤولين وأركان 14 آذار، إلى تأكيد الموقف الأميركي من انتخابات الرئاسة اللبنانية ودعم فريق الموالاة.
4 ــ لم يتخلّ الأميركيون حتى الآن عن تحفظهم عن المبادرة العربية، ولا يعدّون أنفسهم معنيين بها ومؤيدين لها إلا في حدود بندها الأول، وهو انتخاب رئيس جديد للجمهورية. الأمر الذي عبّر عنه ولش بصراحة أمس حين نبذ ضمناً باقي بنود المبادرة، قائلاً بانتخاب رئيس جديد، تاركاً العناصر التالية من المبادرة إلى مرحلة ما بعد الانتخاب دونما التزام باتفاق سياسي مسبق عليها. وهكذا يضيف إلى ما تطالب به الموالاة بعداً إضافياً من دعم أميركي غير مشروط.
وفي واقع الأمر، خلافاً لباريس، لا تفصل الدبلوماسية الأميركية بين حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وقوى 14 آذار، وتجدهما جسماً واحداً يقتضي دعمه كقوة وحيدة قادرة على مواجهة النفوذ السوري في لبنان. ولأن الفرنسيين لا يشاطرون أصدقاءهم الأميركيين هذا الجانب في مقاربتهم العلاقة مع حكومة السنيورة وفريق الغالبية، لم تتردّد القائمة بأعمال السفارة الأميركية ميشال سيسون في إبداء ملاحظة سلبية على مستوى مشاركة السفارة الفرنسية في الاحتفال الذي دعت إليه قوى 14 آذار في مجمع بيال في 14 آذار الفائت حول «ربيع لبنان 2008».
كان الأميركيون، على غرار ما فعلوا هم، قد رغبوا في مشاركة فرنسية رفيعة من خلال القائم بالأعمال الفرنسي أندره باران الذي أوفد إلى الاحتفال دبلوماسياً فرنسياً يمثّله. حينذاك برّرت السفارة الفرنسية تصرّفها بأن الاحتفال حزبي ويوجب أن يقتصر تمثيلها فيه على مستوى دون القائم بالأعمال الذي يشارك في الغالب، وبروتوكولياً، في احتفالات ذات طابع حكومي ورسمي.
إلا أن الموقف الفرنسي توخّى أيضاً، من دون التخلي عن تعاطفه العلني مع قوى 14 آذار، تمييز علاقة الدبلوماسية الفرنسية بالمرجعية الرسمية اللبنانية وهي حكومة السنيورة عن سائر الأفرقاء اللبنانيين. تدعم الحكومة اللبنانية الشرعية، وتحاور الأفرقاء الآخرين في الموالاة والمعارضة جميعاً، وتحضر الاحتفالات والمناسبات السياسية التي تدعى إليها، على مستوى واحد من التمثيل، من غير أن ينطوي الموقف الفرنسي على انحياز فاضح إلى فريق دون آخر.