إبراهيم الأمينبين المعارضة والموالاة تقف شخصيات تحفظ صلاتها بالجانبين. قد تكون أقرب في عقلها التحليلي ومواقفها الإجمالية إلى المعارضة، لكنها لا توافق على مبدأ القطيعة القائمة الآن مع الموالاة. وهي تنظر بخطورة إلى المشروع الأميركي باعتباره صاحب مصلحة جدّية لا في منع التسوية بين اللبنانيين فحسب، بل في الدفع نحو الفتنة، وتجد لنفسها بعض الحلفاء اللبنانيين الذين يعرضون خدماتهم وإن كانوا لا يشكّلون حتى اللحظة قوة قادرة على التنفيذ.
واحدة من هذه الشخصيات سبق لها أن رشّحت لمنصب الرئاسة الأولى. صحيح أنها لم تمارس العمل السياسي التقليدي المستند إلى قواعد شعبية في منطقتها أو في مناطق أخرى، إلا أنها تحظى بشعبية في أوساط كثيرة. وهذه الشخصية تخشى أن يكون ثمّة قرار أميركي كبير ومدعوم من السعودية وبعض القوى الفاعلة في المنطقة، للدفع نحو فتنة في الأوساط المسيحية. وهي تتوقف عند الموقع الذي تحاول منه الإدارة الأميركية، وبمساعدة من السعودية والأردن، جعل القوات اللبنانية متحدثة باسم المسيحيين. وقد لاحظت هذه الشخصية الأمور الآتية:
أولاً: إن واشنطن فقدت الأمل في لعبة إضعاف العماد ميشال عون من خلال الضغط السياسي والإعلامي. ووجدت بعد كل ما حصل أن قاعدته الشعبية لا تزال كما هي، وأن التأثر السلبي ربما ينتج من أسباب بعضها يتعلق بالجمود العام وقرف اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً من أجواء التوتر، أو عن أمور داخل التيار حيث تنطلق الآن نقاشات مختلفة عن السابق لجهة التفاوت في وجهات النظر بشأن آلية إدارة التنظيم، علماً بأن هذه المناقشات لم تلامس بعد الوضع السياسي. كذلك فإن الولايات المتحدة، ومعها فرنسا وعواصم أخرى، تشعر بالإحباط من عدم قدرة البطريرك الماروني نصر الله صفير والكنيسة بوجه عام على تحقيق التوازن الفعلي في الشارع المسيحي بحيث يصار إلى إشعار العماد عون والوزير السابق سليمان فرنجية بالحرج... لا بل إن هذه الشخصية تدعو إلى مراقبة قداس الأحد في بكركي والذي لا يحضره حشد، مما يعكس الوضع الشعبي للكنيسة وللبطريرك صفير في أوساط المسيحيين، وهو موقع متراجع إلى حدود لا سابق لها. حتى وصل الأمر إلى بدء الحديث عن المرحلة الانتقالية التي تسبق تولّي أحد المطارنة موقع البطريرك بعد وقت غير بعيد.
ثانياً: إن مجموع مسيحيي 14 آذار بدوا في موقع كثير الهشاشة خلال الفترة الماضية. وربما لم يبرز من هؤلاء سوى النائب بطرس حرب والنائبة نايلة معوض، مستندين إلى حيثية شعبية لها جذورها ولو كانت محدودة الفعالية. لكن سائر القوى والشخصيات باتت عبارة عن فريق يعمل في خدمة قيادة 14 آذار سواء كانت بيد سعد الحريري أو وليد جنبلاط أو سمير جعجع. وأظهرت دراسات ميدانية أن جعجع نجح في استقطاب ما بقي من جمهور التفّ يوماً ما حول الشخصيات المشكّلة لفريق 14 آذار غير الحزبي، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تدرس الموقف من زاوية البحث عن قيادة قوية قادرة على منافسة عون. وكانت انتخابات المتن الشمالي الفرعية قد شكلت ضربة قوية للرئيس أمين الجميل، تلتها ضربات أخرى على صعيد صورته السياسية قبل الحوارات التي أدارها الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى وفي أثنائها، أو على صعيد ما يجري داخل حزب الكتائب نفسه.
ثالثاً: إن فريق القوات نجح خلال عامين في إعادة تنظيم صفوفه بقوة. وقد أنشأ برامج تعبوية وبرامج مادية من النوع الذي أتاح استعادة العلاقات مع قسم كبير من الكوادر الفاعلين في لبنان وخارجه. كما نجح جعجع في إعادة بناء الهيكلية الأمنية الخاصة، والتي تأخذ شكلاً مستوراً الآن بعناوين مختلفة. لكنها هيكلية تحاكي ما سبق في تاريخ هذا الفصيل الدموي. واستفادت القوات من دعم مادي كبير وفّره الحريري من جهة والسعودية من جهة أخرى، إضافة إلى المكاسب العامة التي ترد عبر السلطة نفسها، وخصوصاً أن فريق 14 آذار منح القوات وضعية تتيح لها تحقيق بعض المكاسب على حساب غيرها.
رابعاً: إن النشاط الذي يقوم به النائب ميشال المر بدعم من جهات وشخصيات سياسية وغير سياسية، يعكس حاجة فريق 14 آذار إلى غطاء للدخول في حروب قذرة من النوع الذي يستهدف فرط الواقع الشعبي المسيحي وإدخاله في تجربة جديدة، وهي التجربة التي تعيد الانقسام إلى ما كان عليه في وقت سابق، لاعتقاد هؤلاء بأن في ذلك ما ينهك عون وتياره من جهة، ويفقد المعارضة القدرة على التحرك في هذا الوسط، والعمل على جعل المعارضة محصورة الفعالية والغطاء الشعبي بالقوة الشيعية تمهيداً لإعادة إطلاق العنان للحرب المذهبية السنية ـــــ الشيعية التي يعمل الإسرائيليون والأميركيون لإنجازها بكل قوتهم.
خامساً: بناءً على كل ما تقدم، فإن هذه الشخصية تخشى أن يكون سمير جعجع قد قدم نفسه من جديد قائداً لحملة من هذا النوع، يعاونه البعض بطريقة ملتوية، مثل النائب المر وابنه وزير الدفاع، وحيث يبدو أن المهمة المعلنة هي خلق قاعدة سياسية وشعبية تعمل لمصلحة الرئيس المقبل للجمهورية على قاعدة أنه سيكون حتماً إما العماد ميشال سليمان أو شخصية محايدة لا تمتّ بصلة إلى عون أو إلى المعارضة.
وفي هذا السياق تلفت الشخصية نفسها الانتباه إلى أهمية أن تبادر المعارضة، ولا سيما عون، إلى إطلاق دينامية سياسية تظهر موقفه من موضوع الرئاسة بوضوح أكبر، وتحول قرار تخلّيه عن الترشيح إلى قوة لمصلحة المسيحيين وليس العكس، وأن ينجز مع حلفائه في المعارضة خطاباً يمنع الآخرين من جرّ المسيحيين إلى الهاوية من جديد، آخذاً في الاعتبار الشلل الذي يصيب الكنيسة كحليف مفترض لمن هو ضد الفوضى والحرب، علماً بأن أحداً، بمن في ذلك هذه الشخصية، لا يعوّل على تراجعات في المشروع الأميركي، بل التوقع هو بالعكس مزيد من الضغط على عون، وتحميل المعارضة مسؤولية الجمود، مما يؤكد أن واشنطن غير مهتمة بمصالح أحد إلا بسياساتها، وبالتأكيد ليس عندها شخصية حليفة معلنة سوى فؤاد السنيورة، ولا أداة طيعة ومستعدة للعمل أكثر من القوات اللبنانية.