strong>الحكومة لم تعوّض على المتضرّرين والملفّ قيد التسييس
هجَّرت القوات السورية مواطنين كثراً من منازلهم التي تحوّلت إلى ثكنات للجيش والاستخبارات. وبعد ثلاثين عاماً من الإبعاد، عاد الناس إلى منازلهم ليجدوها شبه ركام تحيط به مآثر مرحلة يفترض أنّها ولّت، لكنّ ضحاياها الحقيقيّين ما زالوا يعانون

غسان سعود
مضت ثلاث سنوات على انسحاب الجيش السوري، لكنّه لا يزال أبرز الحاضرين. يحضر على مدار الساعة في السجالات السياسيّة، في ذكريات الناس، وفي مقارّه السابقة التي يبدو أن الحكومة اللبنانيّة تريد إبقاءها مشرّعة على بؤسها، شاهدة على مرحلة «البعث طريق البطولة والانتصار»، ومقتضياتها غرف سوداء موزعة على المناطق تدل على مآثر.
هكذا من بوريفاج بيروت صعوداً حتى أعالي المتن وخلفه عنجر، تجري حركة ترميم بطيئة للعقارات التي كان يشغلها الجيش السوري. والأسباب، كما يقول أصحاب الرزق أو جيرانهم، تتراوح بين العجز المالي «نتيجة بخل الحكومة»، وهجرة البعض نتيجة يأسه من احتمال انسحاب سوري واستعادتهم منازلهم. وتكشف الجولة الميدانيّة على القرى التي سكنها الجيش السوري أن عدداً كبيراً من ملّاكي المنازل باعوا رزقهم ودفعوا من ثمنه ضريبة للضبّاط السوريّين حتى يغادروه ويتمكن المالك الجديد من تسلمهالرواية تُختصر في أبرز مصايف الستّينيات وبداية السبعينيات، بلدة ضهور الشوير المتنيّة. فالفيلات الفخمة الموزّعة في حرج الصنوبر الكبير سكنها الجنود السوريّون قرابة ثلاثة عقود، وخلّفوا وراءهم منازل مهدّمة، منزوعة الشبابيك والأبواب. وإذ تتداخل القصص والتهم، يحمّل مسنّ «القوى النافذة» في البلدة المسؤولية عن احتلال منزله وتسليمه لاحقاً للسوريين، فيما ترفض إحدى جاراته رمي المسؤولية على عاتق السوريين، موضحة أن الحرص على مصالح المواطنين من مهام الحكومات اللبنانيّة التي تعاقبت، دون التجرّؤ على النقاش في احتمال التعويض على أصحاب الحقوق. وبشبه إجماع، يردد الناس كيف عادوا إلى منازلهم بعد ثلاثة عقود ليجدوا جباة الكهرباء والمياه في انتظارهم يطالبون بفواتير العشرين عاماً الماضية، والسؤال نفسه يشغل معظم المنكوبين: لماذا لم يحرّك المنتفضون دفاعاً عن السيادة ساكناً للتعويض على من دفع من رزقه وأرضه ومستقبله ودمه ضريبة انتهاك السيادة، بينما كان غيره يستنفد طاقته على الاستفادة؟
وكان أهالي المتن الأعلى المتضرّرون قد بدأوا منذ الانسحاب السوري قبل ثلاث سنوات بتصعيد مطالبتهم بأخذ الحكومة مأساتهم بعين الاعتبار، ومعظمهم، بحسب المهندس سيزار أبي خليل، لم يقدّموا طلبات ترميم في صندوق المهجرين لعدم ثقتهم بأجهزة الدولة بعد المعاملة التي شهدوها إثر انسحاب الجيش السوري من منازلهم. علماً بأن عدد طلبات المتن في الصندوق يبلغ 6606 طلبات (لتعويض أضرار سبّبها السوريّون وأطراف أخرى) دفع منها، نتيجة متابعة نواب المتن في تكتل التغيير والإصلاح، بحسب أبي خليل، 2616 طلباً وزِّعت كالآتي: 1688متضرّراً، 610 «ترميم منجز»، و318 «إعادة إعمار»، 513 طلباً مدفوعاً جزئياً (بينها 59 «إعادة إعمار» و454 «متضرّراً») أعطيت الدفعة الأولى أو أول دفعتين وبقيت دفعة.
ويبقى عالقاً 3477 طلباً غير مدفوعة موزّعة كالآتي: 2287 ترميماً منجزاً، 927 متضرراً، 256 إعادة إعمار، و6 قيد الإنشاء. ويشرح أبي خليل أن الدفع بخلفيّة سياسية استغل هنا أيضاً، إذ ارتفع عدد التعويضات من 60 خلال شهر آب 2007 إلى 101 في أيلول حين حصلت انتخابات المتن الفرعيّة، ليعود بعدها وينخفض إلى 30 في شهر تشرين الأول. علماً بأن التعويضات بلغت مستوى سنوياً قياسياً عام 2007 حين دفع 843 طلباً.
الجدير بالذكر أنّ وزير المهجّرين نعمة طعمة قام بواجبه نسبيّاً، فرفع إلى مجلس الوزراء كتابين: الأول بتاريخ 8/4/2006 يطلب فيه معالجة ترميم وإعادة بناء الأبنية التي كانت تشغلها القوات العربيّة السوريّة بعد إخلاء هذه المباني وازدادت طلبات المواطنين، وخصوصاً أن القسم الأكبر منها يقع في مناطق الاصطياف (ضهور الشوير، بولونيا، صوفر، بحمدون)، والناس يرغبون بترميم منازلهم للإفادة منها قبل فصل الصيف. وبعد عام كرر طعمة طلبه في كتاب ثانٍ بتاريخ 26/5/2007 يُذكّر فيه بما سبق وطلبه، ويوضح أن وزارة الدفاع أرسلت في 1/8/2006 إلى وزارة المهجرين كتاباً حدّدت فيه بالتفصيل الأبنية والعقارات التي أخلتها القوّات السوريّة وسلّمتها قيادة الجيش لأصحابها، مطالباً بإدراج هذا الموضوع على جدول أعمال مجلس الوزراء لاتخاذ القرار المناسب بشأنه، الأمر الذي لم يحصل نتيجة حرب تمّوز والأحداث السياسيّة التي تلتها. وكان الباحث كمال ديب قد قدّر خسائر أصحاب المنازل التي احتلّها الجيش السوري، في مقال نشر في صحيفة «النهار» في 4/4/2005، بمئات ملايين الدولارات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المعارضين والموالين يصادقون على قول المدير العام لصندوق المهجرين فادي عرموني إن التأخير سببه عدم تخصيص اعتمادات لهذه المنازل.
على صعيد آخر، يبدي كثير من المواطنين حماسة لترميم منازلهم رغم الظروف الصعبة. ويقول وليد بشارة مثلاً إنه اضطر لأن يدفع لصاحب الملك قبل تسلّم المنزل ليدفع بدوره للضابط السوري المتمركز في منزله لقاء مغادرته وفرقته إلى مكان آخر. وهذا ما حصل. ويوضح بشارة أنه لم يتقدم من صندوق المهجرين بأية معاملة لانتفاء صفة المتضرر عنه. ولاحقاً حين قرر ترميم المنزل، باشر هذا الأمر بجهد شخصي و«دون منّة أحد». أما جاره في بلدة ضهور الشوير أيضاً ماجد شاهين عبدو، فيروي أن القوميين احتلوا منزله ثم سلّموه للسوريين عام 1994، مشيراً إلى الصور التي يحتفظ بها عن الدمار الذي لحق في المنزل، والتي لم تجد في الوزارات المعنيّة من يمسحها. ويقول عبدو إنه دفع حتى الآن أكثر من 100 ألف دولار، ولم تنتهِ المرحلة الأولى من الأعمال بعد.
وتشير بلدية ضهور الشوير إلى وجود قرابة 700 طلب تعويض لدمار شامل أو جزئي، غالبيتهم رمموا، فيما تبقى الفنادق الخمسة وفيلا صوايا أبرز الصور العالقة في الزمن كذاكرة خاصة تحفظ جزءاً من الممارسات السورية. وتقول مصادر البلديّة إن الجيش قام بمسح كل المنازل التي كان يحتلها السوريون، لكن الناس لم يقبضوا «باستثناء من لديه واسطة قويّة». أما فندق القاصوف الذي كان من أهم المراكز السياحيّة في المتن قبل الحرب، فلا يزال على حاله كما تركه السوريون، باستثناء إضافة لافتة صغيرة كتب عليها «أملاك خاصة، لطفاً ممنوع الدخول». ويحافظ الفندق الذي يملكه لبناني وأردني على آثار سكانه كاملة، فتتغلّب بين أرجائه صور الماضي القريب على الصور التي تحفظها ذاكرة مسنّي البلدة عن احتفالات ضخمة كان يشهدها الفندق الذي غنّى فيه المطرب محمد عبد الوهّاب وأم كلثوم.
أما في بولونيا، فتبدو مسيرة الترميم أفضل حالاً. وبحماسة كبيرة، يقول رئيس المجلس البلدي جورج كفوري إن البولونيّين أسرعوا فور انسحاب آخر حاجز للجيش السوري في لبنان من بلدتهم إلى بدء التخطيط لاستعادة الأملاك (كان الجيش السوري يحتل قرابة 40 فيلا في البلدة) وترميم ما يمكن إصلاحه رغم التعويضات المخجلة التي دفعها صندوق المهجرين للبعض. وقد تعاونت البلدية مع الجيش بداية لتسريع المسح، ثم مع مؤسستي الكهرباء والمياه لحل مسألة الفواتير المتراكمة. ويشير كفوري إلى إصلاح البلديّة للطريق العام الذي كان السوريون قد أقفلوه وحولوه إلى ثكنة ومربض لدباباتهم وملالاتهم. واليوم، يقول كفوري إن أكثر من 99% من المنازل قد رممت.
وفي السياسة، يحمِّل النائب نبيل نقولا الحكومة المسؤولية عن استمرار مأساة أصحاب هذه المنازل، مستغرباً تجاهلها مثل هذه المآسي رغم مزايدتها المستمرة في الدفاع عن «أهل الحريّة والسيادة والاستقلال». ويشير نقولا إلى توزيع الحكومة الأموال بطريقة تمييزية تثبت انحيازها حتى في القضايا الإنسانية، فدفعت مثلاً 4792 طلباً في بيروت، 2368 في الشوف، 1243 في طرابلس، و843 في المتن فقط.


جبر مجدداً
خلعت فيلا جبر صورة يصعب نزعها من عقول ستظل ترى فيها ذلك المركز المحوري لمراقبة كلّ ما يجري في المتن الشمالي. ويقدِّر المشرف على ورشة ترميمها الياس الشعّار أن تتخطّى كلفة الترميم 3 ملايين دولار، مؤكداً عدم الطلب من صندوق المهجرين أيّة مساعدة، بعد دفع المتأخّرات لمؤسستي الكهرباء والمياه. وزرع الشعّار 1600 شجرة، بينها 500 سنديانة و1000 شجرة مثمرة. وتحافظ الفيلا على سجن فريد، يقول الشعّار إنهم سيدمّرونه لعدم تمسّك المالك بذكريات تلك المرحلة. وعلى هامش الورشة، يلفت اكتشاف أحد المهندسين استبدال السوريين لمساحة كبيرة من قرميد الفيلا الإيطالي بآخر سوري الصنع.