إبراهيم الأمينتهتم أوساط محلية وإقليمية بخلفية الموقف الهادئ للنائب وليد جنبلاط إزاء دعوة الرئيس نبيه بري إلى حوار مكثف ينتج اتفاقاً يسهِّل انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً، ويوفر قيام حكومة توافقية. ويترافق هذا الاهتمام مع سيل من الشائعات التي تخص الرجل نفسه، من أنه بادر إلى التواصل مع معارضين له من داخل الطائفة الدرزية، إلى توسيع قنوات التواصل على الأرض مع جهات نافذة في المعارضة، إلى اتصالات غير مباشرة بسوريا نفسها. علماً بأن أياً من المقربين من جنبلاط لا يؤكد هذه المعلومات، بل يشير هؤلاء إلى أن زعيمهم يشعر بخطورة المرحلة، وبأن استمرار الفراغ لفترة إضافية سوف ينعكس توترات على الأرض من النوع الذي يقود إلى انفجار أهلي كبير.
على أن موقف جنبلاط يشير إلى نوعية النقاشات الجارية داخل فريق الأكثرية، إذ إن دعوة الرئيس بري تعكس مناخات مختلفة من المبادرات الخاصة بالأزمة اللبنانية. فهي تعني عملياً موت المبادرة العربية، وهي المبادرة التي باتت الجامعة العربية نفسها غير متحمسة لها بفعل ما تعرضت له من ضربات من أطراف عدة داخل لبنان وخارجه. كما أن الاجتماع الذي عقد في الكويت بدعوة من الجانب الفرنسي، عكس توجهاً يتجاوز مبدأ الحل المتكامل الذي تتضمنه المبادرة العربية، ما يعني أن القوى العربية والدولية التي دعمت المبادرة العربية (ما عدا الموقف الأميركي) قررت التخلي عنها لاعتقادها أنها تواجه مأزقاً كبيراً. وهذا وفّر بحد ذاته حجة إضافية لرئيس المجلس للمضي بمبادرته الداخلية، لأنه أدرك مباشرة أن فكرة الانفراج في العلاقات العربية العربية لم تعد صالحة، إذ إن السعودية على سبيل المثال، رفضت استقباله هو، فكيف يسعه إقناع قيادتها بالذهاب نحو توافق مع سوريا ينعكس إيجاباً على الوضع في لبنان. ثم هو يعرف تمام المعرفة أن هناك مشكلة جدية بين الولايات المتحدة وفرنسا من جهة، وسوريا من جهة ثانية، ما يعني أن بري تلمس أن أولويات القوى الإقليمية والدولية ليست متقاربة مع أولويات الحل اللبناني، وبالتالي لم يعد أمامه من فرصة، إلا اللجوء إلى فكرة الحوار، لأن بديلها هو الدعوة إلى توتر يرافق الفراغ والجمود السياسي.
ولذلك، فإن تفسير الأكثرية لمبادرة الرئيس بري بأنها محاولة لاستبدال الاتصالات العربية العربية باتصالات داخلية صحيح من حيث المبدأ، لكن الأكثرية تتهم بري بأن هدفه ليس التوصل إلى حل يمثل صيغة وسطية، بل إنه يريد كسب الوقت، ويريد تخفيف الضغط عن المعارضة وعن سوريا، باعتبار أن الآخرين في الخارج يتحدثون عن مسؤوليتهما عن التعطيل، وهو موقف لا يعبّر عن قراءة صحيحة، كما أنه لا يعبّر عن واقعية سياسية. وربما هنا يظهر التباين، ولو الخفيف، مع جنبلاط، لأن من يرفض دعوة بري إلى الحوار لا يملك البديل العملي، إلا إذا كان في فريق الأكثرية من لا يريد حلاً الآن، وبالتالي يراهن على متغيرات في المنطقة. وهنا يبدأ النقاش في خلفية موقف جنبلاط.
وبحسب البعض، فإن التصعيد الذي قامت به الأكثرية بداية العام الجاري، جاء عقب ارتفاع مستوى التوتر العربي ـــــ العربي من جهة، وفي أجواء كلام أميركي عن متغيرات كبرى سوف تحصل في المنطقة، وسوف تؤدي إلى إضعاف جبهة سوريا وإيران والمعارضة في لبنان. ثم دارت الماكينات تتحدث عن حروب كبرى سوف تقع في المنطقة، ومع إيران، وعن هجوم إسرائيلي ساحق ماحق على سوريا ولبنان وغزة، وعن خطوات سريعة لأجل تحويل التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى آلية اتهامية تطلق عمل المحكمة الدولية. لكن الذي حصل هو أن رئيس لجنة التحقيق قدم تقريراً أبقى على الغموض نفسه، وقال كلاماً معلناً وآخر في دوائر مغلقة، يفيد بأن التحقيق لم يكتمل بعد، وأنه يصعب عليه الآن إعداد قرار اتهامي، وبالتالي فإن على الجميع الانتظار لأشهر إضافية. ثم جاءت فضيحة الشاهد محمد زهير الصديق لتحرج فرنسا وأوساطاً أمنية ودبلوماسية لبنانية وعربية ودولية. كذلك، بدا أن الوضع على الجبهات مع إسرائيل لا يسير في اتجاه حرب سريعة، رغم أن استنفار المعنيين بهذه الجبهات قائم بقوة. كما أن تجارب إسرائيل في غزة لم تحقق أي نجاحات يبنى عليها، ثم إن الكلام على الحرب مع إيران بات رهن تطورات غير متوقعة خلال وقت قريب، فضلاً عن أن القمة العربية كشفت عن ثُغَر في الجبهة المقابلة، وأن كل ما تقدم إلى جانب معطيات داخلية، دل على صعوبة حصول تحول في مسار الأمور، ما يعني عملياً أن على الأكثرية البحث عن مبادرة، وعدم الاكتفاء بالطبق اليومي «الرئيس أولاً». كما أن من يرفض الدعوة إلى الحوار يجب أن يملك بالمقابل جدول أعمال مقنعاً، لا لجمهوره فحسب، بل للطرف الآخر (المعارضة) الذي إن تعرض لخسائر معنوية بسبب انحسار تحركه، إلا أنه لن يقبل بأن تسير الأمور كأنها ذاهبة حكماً إلى تحقيق مطالب فريق الأكثرية.
وإذا كان جنبلاط لم يقدم تنازلات أساسية في جوهر الموضوع، فهو وافق على آلية للحوار، من شأن نجاحها أن يفرض على طرفي الأزمة تقديم تنازلات من النوع الذي يوفر هدنة أو تسوية تدوم لبعض الوقت، من دون أن تكون كافية للقول بأن لبنان سوف يكون مقبلاً على ازدهار سياسي أو على انتخابات نيابية أكيدة في موعدها، لأن المعارضة تبدو حاسمة هذه المرة في رفض إجراء الانتخابات على أساس قانون عام 2000. وهي، وإن كانت تشعر بصعوبة إمرار قانون عام 1960 كما هو، إلا أنها تستعد لتسوية تقوم على موقف البطريرك الماروني نصر الله صفير الذي دعا إلى تعديل صيغة الدوائر، بحيث يكون في لبنان 32 دائرة، لكل واحدة منها أربعة مقاعد فقط، وهو أمر يرى صفير أنه يتيح للمسيحيين انتخاب نوابهم بأنفسهم، ولا يفرض وصاية الطرف الآخر. لكن صفير الذي يعرف حساسية هذه الفكرة، لم يقل إن كان مستعداً لخوض معركة من أجل هذا الهدف، وهي معركة سوف تدخله في مواجهة مع أقطاب في فريق الأكثرية، ولا سيما في بيروت والشمال، حيث ستكون النتائج في أحسن أحوالها مناسبة للطرفين، وبالتأكيد لن تكون في مصلحة فريق الأكثرية وحده.