نقولا ناصيفلم تصمد طويلاً الانطباعات الإيجابية التي اتسمت بها ردود الفعل الأولى، المتقاربة والمتباعدة في آن واحد، للموالاة والمعارضة من دعوة رئيس المجلس نبيه برّي إلى طاولة جديدة للحوار. استعاد الطرفان تصلّبهما وفق ترتيب كل منهما الأولوية التي يريدها مدخلاً إلى التسوية. وبات الهاجس الوحيد الذي يجمع بينهما هو قانون الانتخاب الذي ستجرى على أساسه انتخابات ربيع 2009. وإذ تجهر المعارضة بأنه همّها الأول ويتقدّم التفاهم حوله على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تقلب قوى 14 آذار الأولوية وتنظر إلى قانون الانتخاب على أنه خطوة تالية لانتخاب الرئيس وتأليف أولى حكومات العهد الجديد. بذلك يكون قد انحسر، أو يكاد، اهتمامهما بحكومة الوحدة الوطنية، وهو سيتضاءل يوماً بعد آخر كلما تناقصت المدة الفاصلة عن موعد انتخابات 2009، بعد 13شهراً.
وهكذا، لوهلة، تتناقص بدورها الفروق التي كانت قد باعدت بين الموالاة والمعارضة بعد سنة ونصف من الأزمة السياسية العاصفة. خرجت المحكمة الدولية من الحسابات الداخلية، ولم تعد المناداة بإسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة ذات تأثير إن لم تصر محور حماية الفريقين معاً بعدما أضحت آخر خشبة عائمة على سطح الشرعية اللبنانية، وفقد شعار المشاركة والمطالبة بالثلث المعطل ديناميتهما بمرور الوقت. لم يعد بين الفريقين ما يختلفان عليه إلا قانون الانتخاب. وما خلا الاتفاق المعلن على انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً، لم يعد ثمة غال تخشى أن تخسره قوى 14 آذار والمعارضة في الوقت الحاضر. الأولى فقدت مغزى امتلاكها الغالبية النيابية وهي عاجزة عن ممارستها في أي خيار بسبب إقفال مجلس النواب، والثانية لم يعد في وسعها التهديد بالشارع وبالانقلاب على الانقلاب تحت وطأة التوازن الداخلي الحساس، السنّي ـــــ الشيعي والمسيحي ـــــ المسيحي.
هو إذن قانون الانتخاب الهدف المقبل للنزاع بين الطرفين. رئيس المجلس قال أمس إنه لا يزال المشكلة، ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط يعدّه في أوساطه ساحة المعركة المقبلة للتوصّل إلى التسوية، ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري قال من السرايا مساء الثلاثاء إنه لا يريده عقبة في طريق انتخاب الرئيس الجديد.
في واقع الأمر لم تعد انتخابات 2009 هاجساً محض محلي. وفي أبسط الأحوال يتحدّث عنها أكثر من طرف إقليمي ودولي على اعتبار أنها محطة للحل. بعض ما قيل في عاصمتين أوروبيتين كبيرتين معنيتين لشخصية لبنانية رسمية بارزة أن في وسع اللبنانيين انتظار انتخابات السنة المقبلة كي تكون مفترقاً رئيسياً في الوضع الداخلي. وعزيت دوافع هذه الحجة إلى استمرار حكومة السنيورة في عملها كسلطة شرعية يعترف بها المجتمع الدولي، وإلى أن الجيش لا يزال موحّداً، وإلى تواصل نشاط الدبلوماسية اللبنانية في الخارج، وتجنّب الأفرقاء اللبنانيين نقل صراعهم السياسي إلى الشارع. وتمثّل هذه الدوافع في رأي العاصمتين الأوروبيتين الكبيرتين ضوابط السيطرة على استقرار الوضع الداخلي إلى أن تنبثق من مجلس النواب المقبل الغالبية الجديدة. الأمر نفسه بالنسبة إلى مقاربة الأفرقاء اللبنانيين قانون الانتخاب المقبل. يرفضون بما يشبه الإجماع إجراء انتخابات 2009 وفق قانون انتخابات 2000 و2005، ويلتقون بما يشبه الإجماع أيضاً على ملامح الدائرة في القانون الجديد للانتخاب، وهي أن تكون صغيرة، من غير أن تتطابق وجهات النظر حيال هذه الدائرة: هل تكون وفق قانون 26 نيسان 1960 معتمداً القضاء مع ثلاثة استثناءات، أو تعتمد الأقضية الإدارية الـ29 دوائر انتخابية، أم يصار إلى تصغير بعض الأقضية؟
الواضح أن الخوض في قانون 26 نيسان 1960 يفتح باب الاجتهاد والخلاف على مصراعيه، لأسباب شتى:
أولها، التعديلات التي يمكن إدخالها على هذا القانون لتصغير القضاء، وهل تتصل بتصغير جغرافيته فقط، أم أيضاً بإدخال توازن جديد على توزيع المقاعد فيه. ذلك بأن قانون 1960 يرسم دائرتين انتخابيتين هما الأكبر عدداً للمقاعد بين سواهما من غير أن يكون ناخبوهما الأكثر كثافة، ولكل منهما ثمانية مقاعد. الأولى دائرة الشوف، والثانية الدائرة الأولى من بيروت. يومها أرادهما الرئيس فؤاد شهاب هديتين لكل من كمال جنبلاط وبيار الجميّل اللذين اعتمد عليهما عهده. وبفعل هذا التقطيع، والتحالفات التي أرسياها بقوة جراء نفوذهما الواسع في الحقبة الشهابية، رجّح جنبلاط كفته في الشوف، وأحكم الجميّل سيطرته على الدائرة الأولى من بيروت.
ثانيها، لأن قوى 14 آذار معنية اليوم بهاتين الدائرتين. يبدو صعباً ـــــ إن لم يكن مستحيلاً ـــــ إقناع جنبلاط الابن بتحقيق العدالة في توزيع المقاعد سواء بتصغير الدائرة أو تقليل عدد نوابها وتوزيعهم على دوائر مجاورة، ما دام ثمة حلفاء له ينادون بدوائر انتخابية صغيرة لا تزيد على أربعة مقاعد. وفي ظنّهم أنهم يتحدّثون عن عدالة التمثيل والتوزيع في آن واحد، كأن يقولوا بالشوف شوفين. علماً بأن العدد الحالي لمقاعد دائرة الشوف هو ثمانية أيضاً. أما الشوف شوفان، والمتن اثنان (أحدهما أرمني) وكسروان اثنتان، فتلك عودة إلى قانوني الرئيس كميل شمعون عام 1953 و1957.
الواقع أن ما يطلبه جنبلاط من قانون الانتخاب مناقض لما يبحث عنه بعض حلفائه. هو يقول بموقع طائفة في معادلة داخلية دقيقة متوازنة وفي الوقت نفسه تهدّدها الأرقام، وهم يبحثون عن كراسي قش.
ثالثها، أن تفاوت العدالة في توزيع المقاعد في قانون 1960 يحمل بذور ثغرة. الدائرة الكبرى من ثمانية مقاعد، والدائرة الصغرى من مقعد واحد (صيدا). في المقابل، فإن التفاوت غير المبرّر والفروق الكبيرة بين الاستثناءات التي لحظها قانون 1960 مثيرة للجدل. لقضاءي بعلبك والهرمل، وهما دائرة انتخابية واحدة، سبعة مقاعد. ولقضاءي مرجعيون وحاصبيا، وهما أيضاً دائرة انتخابية واحدة، أربعة مقاعد، ولقضاءي البقاع الغربي وراشيا، وهما دائرة انتخابية واحدة، ثلاثة مقاعد. في المقابل لكل من دائرتي قضاءي زحلة والمتن خمسة مقاعد. بالتأكيد تندرج هذه الأرقام في عدد أعضاء مجلس النواب الذي نصّ عليه قانون 1960، وهو 99 نائباً. وفي ظلّ العدد الحالي للنواب، وهو 128 نائباً، تبدو المشكلة نفسها تقريباً: بين الدائرة الكبرى (17 مقعداً) لأقضية طرابلس والمنية وزغرتا والبترون والكورة، والدائرة الصغرى (ستة مقاعد) في دوائر بيروت الأولى والثانية وقضاءي البقاع الغربي وراشيا.
رابعها، أن كلاً من الموالاة والمعارضة يعرف سلفاً أن الغالبية النيابية تولد من التحالفات الانتخابية، لا من قانون الانتخاب مهما يكن تقطيع الدائرة، فردية كانت أو صغيرة أو وسطى أو كبيرة. وهو ما خبرته الانتخابات النيابية المتعاقبة منذ عام 1934 حتى عام 2005. ولعلّ خير معبّر عن هذا المعيار أن قانون 2000 منح قوى 14 آذار في انتخابات 2005 غالبية نيابية بفضل تحالفها مع حزب الله في دائرتي قضاءي بعبدا وعاليه ودائرتي قضاءي البقاع الغربي وراشيا. إلا أن تحالفاً معاكساً كان سيؤول ـــــ أو قد يؤول اليوم ـــــ إلى انتقال الغالبية نفسها من فريق إلى آخر بسبب ترجيح الحزب الكفة في هذه الدوائر، ولكون العتبة القصوى لنشوء غالبية وأقلية بين فريقين لبنانيين متنازعين لا تتجاوز في أحسن الأحوال عشر نقاط إلى 15 نقطة لا تمثل أكثر من 11 في المئة من مجموع مجلس النواب. وهي نسبة تتأثر كذلك بطبيعة التشنج السياسي والطائفي والمذهبي، أضف إقبال الناخبين على الاقتراع وحسم قسم كبير منهم خياراتهم في اللحظات الأخيرة.
خامسها، أن الخوض في التحالفات الانتخابية يتوقف خصوصاً على طبيعة التوازن السياسي القائم على أبواب الانتخابات النيابية. وخلافاً لبعض المواقف المعلنة، وبعضها المهوّل خصوصاً، فإن حسابات الموالاة والمعارضة أن تذهبا إلى انتخابات نيابية جديدة لا أن تحولا دونها: لا المعارضة تريد أن تفقد قوّتها في المعادلة السياسية من خلال وجود أحد أبرز رموزها، هو برّي، على رأس السلطة الاشتراعية، ولا الموالاة تريد أن تجرّد نفسها من الأكثرية النيابية التي تمسك بها منذ انتخابات 2005.
بذلك لا يعدو الخلاف على قانون الانتخاب، في صحن قانون القضاء، لكونه استعداداً مبكراً لانتخابات 2009 التي تصنعها التحالفات الانتخابية. بيد أن نظرة كل من الموالاة والمعارضة إلى قانون 26 نيسان 1960 معدّلاً، هي أن تملك كل واحدة منهما حداً أدنى من أسلحة التفاوض على أرضها ريثما يحين أوان التحالفات.