إنها غزة مجدداً، حائرة بشهدائها. تحاول النهوض من بين ركام الموت، ولكنّها تسقط في فخّ الصمت العربي في كلّ مرّة، فتجد نفسها فقط بين أيدي «المقاومين» الذين يحاولون برصاصهم وحجارتهم صدّ هجمات «الإبادة»، وبعض المتضامنين ممّن يشبهونها ويعيشون الأرق نفسه في مواجهة العدوّ المشترك.إنّها غزّة مجدّداً في لبنان تندّد بمحرقة أخرى وتتوعّد بجهاد أكبر، وتصرخ عالياً من المناطق اللبنانيّة ومخيّمات الشتات ومراكز الأمم المتّحدة «الموت لإسرائيل...الموت لأميركا»،
ففي الضاحية الجنوبيّة لبيروت المشهد لم يتغيّر، لا تزال الضاحية هي هي تثأر لمن استشهدوا وتتوعّد. العزيمة نفسها والوعد نفسه بالجهاد حتّى النهاية. وكان موعدها، أمس، مع سبعين شهيداً فلسطينيّاً استشهدوا في «المحرقة» الأخيرة، ومع «المقاومين»... والصمت العربي، لتجدّد الدعوة لمن «يراهنون على «يو. أس. أس كول» توحيد الصفّ في القمّة العربيّة في دمشق من أجل غزّة وغيرها ممّن ينتظر الدور».
هناك، أمام مجمّع «القائم» في الضاحية، تجمّع الآلاف يحملون الأعلام اللبنانيّة والفلسطينيّة و«الحركيّة»، ويصرخون لغزّة ولأبنائها، ويهتفون لنصر الله وللضاحية ولفلسطين، فيما توجّه منسّق حركة الجهاد الإسلامي أبو عماد الرفاعي إلى الموقف العربي الرسمي، متسائلاً «عن سرّ هذا الصمت في خضمّ المجازر». كذلك أكّد أنّه «بمثابة إعطاء الضوء الأخضر للصهاينة لاستكمال محرقتهم، وضرب قوى الممانعة وعلى رأسها المقاومة في فلسطين ولبنان». وأطلق الرفاعي أيضاً ثلاث رسائل، الأولى إلى فريق السلطة، دعاهم فيها إلى وقف التمزيق في الضفّة وإيقاف المفاوضات مع الصهاينة، والثانية إعادة فتح قنوات الاتّصال مع حركة حماس لاستعادة الوحدة الفلسطينيّة، والثالثة إلى المقاومة للاستمرار في المقاومة والجهاد حتّى التحرير الكامل لفلسطين.
بدوره، وجّه ممثّل حركة حماس في لبنان أسامة حمدان خمس رسائل، لم تختلف كثيراً عن رسائل الرفاعي، وإن كان قد أضاف إليها رسالة إلى «الصامتين والمتخاذلين»، يدعوهم فيها باسم غزّة «للانضمام إلى المقاومة، فها هي فلسطين اليوم تفتح لكم الباب للعودة إلى أمّتنا، فلا تعوّلوا على أميركا ومشروع التسوية، فهي لا ترغبكم أصدقاء»، ورسالة أخرى إلى مجلس الأمن والأمم المتّحدة، لافتاً فيها «إلى أنّ العبث والغبن هو في اللجوء إليكم»، ومشدّداً على أنّ «النصر الحقيقي هو في ضمان المقاومة واستمرارها». أمّا رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمّد رعد فقد أكّد «أنّ ما قام به المقاومون في غزّة خلال هذه المحرقة تعلّموه من المقاومين اللبنانيين خلال حرب تمّوز، وهذا ما فاجأ الإسرائيليين الذين أعلنوا انسحابهم قبل أن يبدأوا، وفاجأ أميركا أيضاً التي كانت تراهن على كول في الدفاع عن مشروعها». وكذلك أسف «للفشل الذي قابل زيارة بوش المرتقبة في يوم نشأة الكيان الصهيوني ليعلن شرعيّته ووجوده، بأنّه لا مكان لعربيّ أو فلسطينيّ»، لافتاً إلى عقم الإعلان و«موته قبل الولادة».
ومن أمام الإسكوا، حضرت غزّة أيضاً بمأساتها ومحرقتها، فحمل تلامذة لبنان صور شهداء فلسطين وغنّوا «أناديكم، أشدّ على أياديكم» علّ صوتهم يصل إلى مدارس فلسطين، ويسمع الأطفال هناك أنّ في العالم من يتضامن معهم.
رفع مئات الأطفال أمس أعلام فلسطين، وتحدّثوا عن رؤيتهم الخاصة للمجازر الإسرائيلية في القطاع، فتصرخ الطفلة لوزان الزين «إلى متى تسكتون يا عرب؟» وتشير بيدها إلى صورة شهيد فلسطيني عمره خمسة أشهر. أما الطفل محمد حسين فيتذكّر عدوان تموز «أنا من مارون الراس من الضيعة يللي هزمت إسرائيل، وبدّي قول لأطفال غزة إنو طالما السيد حسن موجود ما يحملوا همّ. هوّي رح يحررن من إسرائيل». كذلك نصبت في الساحة لوحة زرقاء علّقت عليها أشلاء لعب ودمى غطتها الدماء تمثّل شهداء غزة.
ولغزّة نصيبها أيضاً في الجامعات. في الجامعة الأميركية في بيروت، نفّذ طلّاب النادي الثقافي الفلسطيني اعتصاماً رمزيّاً تضامناً مع غزة. افترش ثلاثون طالباً الأرض أمام البوابة الرئيسية داخل حرم الجامعة، لفّوا الكوفية والعلَم الفلسطيني على أجسادهم تجسيداً للشهداء الذين سقطوا في الأيام الأخيرة.
بدايةً دقيقة صمت، ما إن انقضت حتى علا صوت أحد الطلاب «يا أولمرت صبرك صبرك، بغزّة حافرين قبرك... من غزة لبيروت شعب واحد ما بموت... من بيروت لغزة يا أرض بلادي اهتزي» ردد الطلاب خلفه الشعارات. عبّروا عن غضبهم وسخطهم للصمت والتواطؤ العربيين. يقول أحد الطلاب الخليجيين في الجامعة، رفض الإفصاح عن اسمه وجنسيته خوفاً من ردة فعل ضدّه، «أنا أخجل من كوني خليجياً، أشعر بالقرف من سياسة ملوكنا ورؤسائنا... أين السلاح الذي تبيعه الولايات المتحدة لنا؟، فليوجّهوه إلى إسرائيل علّ التاريخ يغفر لهم يوماً كل هذه الخيانة».
ولم يشفع للولايات المتحدة وجود الطلاب في حرم «الأميركية» فعلت صرخات «الموت لإسرائيل، الموت لأمريكا»، وألقت رئيسة النادي ميرا عواد كلمة دعت فيها الطلاب للعمل «لقضيتنا، لحقنا لمستقبلنا ولتاريخنا، فنحن من صنع التاريخ، ومن سيصنع المستقبل».
وفي حين كان الطلاب يصرخون ضدّ الزعماء العرب، انسحبت الطالبة ريتا خوري، والدموع في عينيها «مش ممكن صور المجازر تكون حقيقية، هول أطفال ممنوع يموتوا بهالسهولة، الله يهدّك يا إسرائيل»، تمسح دموعها وتضيف «لأ مش الله رح يهدّها، نحنا رح نحرقها بالقذايف بالصواريخ».
وقد شكا تلامذة بعض المدارس في صيدا ومن بينهم تلامذة مدرسة ثانوية رسمية في المدينة مشهود لها باكاديميتها، من منعهم من التعبير السلمي والديموقراطي عن تضامنهم مع أبناء الشعب الفلسطيني، تحت حجة أن القانون لا يسمح بمثل نشاطات كهذه. وطرح بعض التلامذة علامات إستفهام حول مدى التقيد بالقوانين المدرسية وتجاوزها متى كان الأمر متعلّقًا بفريق سياسي كما حصل في إحياء ذكرى إغتيال الرئيس رفيق الحريري التي حوّلت بعض المدارس الرسمية والخاصة إلى منابر سياسيّة ناطقة باسم الزعماء.
من جهتها، اعتصمت القوى الشبابية والطلابية اللبنانية والفلسطينية أمام كلية الآداب ـــ الفرع الأول الثانية عشرة ظهراً للسبب نفسه. قوة الصوت الذي وصل إلى قاعة المسرح في الطبقة الثانية عشرة من مبنى وزارة التربية المجاور كانت تنبئ بالآلاف، فيما لم يتجاوز العدد المئات. غلب على الحضور الطابع الحزبي حيث اتشح المشاركون بالسواد، فيما رفرفت الأعلام اللبنانية والفلسطينية إلى جانب اللافتات المنددة بالصمت العربي والتخاذل الرسمي في مواجهة المحرقة الإسرائيلية بحق الشعب الأعزل. من وقت لآخر كان صوت أحد الخطباء يقطع سيل أغاني المقاومة، ويحاول حث المشاركين على إيصال صوت هتافاتهم إلى العدو وإلى الشعب العربي على السواء. وألقيت كلمة للمنظمات الشبابية ومجالس الفروع في الجامعة اللبنانية وللروابط الفلسطينية نددت جميعها بالوضع في غزة ودعت إلى المقاومة دفاعاً عن الكرامة العربية.
ولليوم الخامس على التوالي، انطلقت في مختلف المخيمات الفلسطينية أمس عشرات المسيرات التي تندد بالعدوان الإسرائيلي والمجازر في غزة.
في مخيمي البص وبرج الشمالي، نظمت عدة مسيرات بدعوة من حركتي حماس وفتح شارك فيها مئات الأطفال الفلسطينيين من المخيمات المجاورة.
في موازاة ذلك، شهد مخيم البداوي اعتصاماً أمام مكتب مدير خدمات الأونروا تنديداً بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، واستنكاراً للموقف الدولي الذي «يساوي بين الضحية والجلاد»، وقد رفع المعتصمون مذكرة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، طالبوه فيها بتوحيد الصفّ.
ونظمت الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية اللبنانية في بيروت قبل ظهر أمس لقاءً وطنياً مشتركاً لبنانياً ـــ فلسطينياً في مركز توفيق طبارة «تضامناً مع الشعب الفلسطيني ومقاومته البطلة في غزة وإدانةً للعدوان الاسرائيلي الهمجي عليها».
وعلى صعيد المواقف، أجرى رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة اتصالاً هاتفياً بالرئيس الفلسطيني محمود عباس أطلعه فيه على نتائج اتصاله مع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لوقف حمام الدم الذي ترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة.
ورأى الرئيس نجيب ميقاتي «أن الفصل الجديد من العدوان الإسرائيلي يضع القيادات العربية أمام مسؤولية تاريخية تتعدى الاكتفاء ببيانات الإدانة والاستنكار وإرسال المساعدات الإنسانية، إلى السعي، ولو لمرة واحدة إلى بلورة موقف جامع يطالب المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته التاريخية في حماية الشعب الفلسطيني».
كما صدرت مواقف مستنكرة عن كل من: النائب مصطفى هاشم، الأمين القطري لحزب البعث العربي الاشتراكي الوزير السابق فايز شكر، رئيس حزب الحوار الوطني فؤاد مخزومي، الأمين العام لحركة النضال اللبناني العربي النائب السابق فيصل الداوود، النائب السابق بهاء الدين عيتاني، نقيب المحررين ملحم كرم، نقيب الصحافة محمد البعلبكي، الرابطة الوطنية اللبنانية، مربّي جمعية الدعاة الشيخ محمد أبو القطع ولجنة الأمهات في لبنان.
شارك في التغطية: (راجانا حمية، ليال حداد، ديما شريف، بهية العينين، علي عطوي وعبد الكافي الصمد)