نقولا ناصيفتفاعل السجال على قانون الانتخاب، ودخل في التفاصيل الأكثر افتعالاً للخلافات والانقسام حوله. بل قد يكون اللافت أن دبلوماسيين أوروبيين بدأوا يطرحون تساؤلات مبكرة عن قانون الانتخاب ويستفسرون عن قانون 26 نيسان 1960، من وفرة ما قيل عنه في اليومين المنصرمين، ويدوّنون ملاحظات عن مواقف الأفرقاء منه، ويلحّون كذلك على معرفة فاعلية هذا البند في المبادرة العربية وقدرته على نسف التسوية برمتها.
يذهب بعض هؤلاء الدبلوماسيين، في حمأة الأصداء التي سمعوها في الأيام الثلاثة الأخيرة عن الخلاف الطارئ على قانون الانتخاب، إلى التساؤل أيضاً عن مدى الدور الذي يمكن الأوروبيين والمجتمع الدولي الاضطلاع به لمساعدة اللبنانيين على تجاوز خلافاتهم! يستوضح هذا البعض، ببراءة، هل الخلاف على قانون الانتخاب يحتّم طلبهم «مساعدة تقنية» تتيح لهم تجاوز العقبات القائمة، مشابهة للمساعدة التقنية التي قدمتها الأمم المتحدة للبنان في سياق تذليل العراقيل التي واجهها في التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وسلسلة الاغتيالات التالية.
وينطلق اهتمام الدبلوماسية الأوروبية بقانون الانتخاب من حملة استطلاع كانت قد أجرتها مع أكثر من جهة سياسية داخلية لاستكشاف مبرّرات دفع هذا البند من المبادرة العربية إلى واجهة الخلاف في الوقت الحاضر، وصرف الانتباه عن البندين الأوّلين الأكثر إلحاحاً لإمرار التسوية التي اقترحتها الجامعة العربية، وهما انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وتأليف حكومة الوحدة الوطنية. واستندت تساؤلات الدبلوماسيين الأوروبيين ـ وبينهم مَن يملك تجربة مخضرمة في الاطلاع على قوانين الانتخاب وفي إجراء انتخابات نيابية في دول عدة ـ إلى اتجاهات ثلاثة:
ـ تركيز السجال على قانون الانتخاب على أساس أنه مشكلة مسيحية ـ مسيحية أكثر منها مشكلة ناشبة بين طرفي النزاع، قوى 14 آذار والمعارضة، على غرار خلاف هذين الأخيرين على بنود تسوية الجامعة العربية. ولفت الدبلوماسيين الأوروبيين أن معظم ردود الفعل التي تجمعت لديهم عن الشروح المتباعدة والمتناقضة لما يريده كل من الطرفين المسيحيين، جعلت قانون الانتخاب مشكلة مسيحية في المقام الأول، تصرّف حيالها الزعماء المسلمون الآخرون بلامبالاة ظاهرة، ما خلا دعم كل من هؤلاء وجهة نظر حليفه المسيحي في الائتلاف السياسي الذي يضمّه وإياه.
ـ إن مقاربة قانون الانتخاب تبدو بالنسبة إلى الدبلوماسيين الأوروبيين، في ضوء ما سمعوه وقرأوه، مشكلة مستقلة في ذاتها تحتاج إلى حل مستقل، ولا تستمد حلها من الضمانات التي يمكن أن يوفرها انتخاب رئيس جديد للجمهورية أو تأليف حكومة وحدة وطنية. تالياً، فإن السجال المفتوح على هذا الموضوع يتركز خصوصاً على تقدير مبكر لنتائج انتخابات محتملة وفق هذا القانون أو ذاك من أجل قياس الأكثرية النيابية المقبلة وتحديد حجمها في التوازن السياسي الداخلي.
ـ أن وجهة نظر كل من الطرفين المسيحيين المتساجلين حيال قانون الانتخاب، وكذلك الأفرقاء الآخرين، تنحصر في توجيه الانتقاد إلى جانب محدّد من قانون الانتخاب يتصل بالدائرة الانتخابية، في حين أن المقاربة الأكثر جدية للقانون، يقول الدبلوماسيون الأوروبيون أمام زوارهم اللبنانيين، تتطلّب التعامل معه على أساس أنه كلٌّ لا يتجزأ، يحترم الاعتراف بالحاجة إلى مساعدة تقنية يقدمها الخارج للبنانيين، وبضرورة مراقبة آلية إجراء الانتخابات والتسليم بنتائجها. ولا يتفق الدبلوماسيون الأوروبيون مع زوارهم السياسيين اللبنانيين عندما يسهب هؤلاء في القول إن مشكلة قانون الانتخاب سياسية أكثر منها تقنية، وتكمن في رسم الدائرة الانتخابية أكثر منها في نواقص أو شوائب في قانون الانتخاب.
واقع الأمر أن الملاحظات التي استخلصها الدبلوماسيون الأوروبيون تشير إلى صلب المشكلة التي يتخبّط فيها السجال المحلّي على قانون 26 نيسان 1960، وتكمن في بعدين رئيسيين:
1 ـ بعدما كان لأكثر من عقد ونصف عقد من الزمن مطلباً مباشراً ووحيداً للمسيحيين لكونه ـ في ظنّهم ـ الأكثر تعبيراً عن تمثيل الناخبين المسيحيين، بات الآن مرفوضاً لمبرّرات غامضة وغير دقيقة، من غير أن يكون ثمة تصوّر لقانون بديل أفضل وأكثر تمثيلاً حيال من بات قانون 1960 قاصراً عن التعبير عن إرادتهم. كان قانون 26 نيسان 1960 في تصوّر المسيحيين، وخصوصاً بكركي، أفضل من قوانين 1992 و1996 و2000 بفعل مقارنته بها التي كشفت الخلل الفعلي في التمثيل. ولم تكن الإشادة بقانون 1960 إلا ثمرة اختبار تجربتين متعارضتين عبّر عنهما قانونان متناقضان هما الدائرة الصغرى (الدائرة الفردية في قانون 1953 والمعدّلة في قانون 1957)، والدائرة الكبرى حينذاك (المحافظة وقد جرّبها اللبنانيون مراراً بين عامي 1934 و1947 ثم في الحقبة السورية). كان قانون 1960 حلاً وسطاً بين انتخابات الأحياء والزواريب وانتخابات البوسطة.
لم يُدرج الرئيس فؤاد شهاب قانون 26 نيسان 1960 في عداد الإصلاحات التي كان قد انتهجها عهده، بل عدّه محاولة أولى لتصويب تمثيل سياسي اهتز في انتخابات 1957 بسقوط ثلاثة زعماء كبار، وبغية إنصاف زعيمين مثّلا عموداً فقرياً لعهده. كان عندما يطلب استدعاءهما إلى صربا يقول «هاتوا لي الطويلين»: الأول هو كمال جنبلاط بأن لملم قانون 1960 لأجله في دائرة واحدة الدائرتين الشوفيتين اللتين شتّتهما قانون سلفه الرئيس كميل شمعون، وهما دائرتا بعقلين ـ جون، ودير القمر ـ شحيم. وثانيهما رئيس حزب الكتائب بيار الجميل بأن خصّ قاعدته المسيحية في الأشرفية بدائرة انتخابية مستقلة عن الناخبين السنّة في بيروت الذين قاوم الجميّل زعماءهم في «ثورة 1958». سلّم شهاب الشوف لجنبلاط، وحيّد في بيروت الناخبين المسلمين عن الدائرة الأولى كي لا يخسر الجميّل مقعداً نيابياً كان الأول له عام 1960. مع ذلك، وقع قانون 1960 في التجربة نفسها عندما أسقط زعيمين آخرين معارضين للعهد، هما شمعون والعميد ريمون إده في انتخابات 1964.
هكذا كان قانون 1960 من أجل جنبلاط والجميّل في أحد أهدافه المبطّنة، وخبر في الوقت نفسه جدوى الأصوات المسيحية في دوائر انتخابية مسيحية.
وهو مغزى تمسّك رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط بالشوف دائرة انتخابية مستقلة، عندما كان في ظلّ الحقبة السورية وعندما انتفض عليها.
2 ـ مهما كان تقسيم الدوائر الانتخابية على مرّ الحقب التي عرفها لبنان منذ عام انتخابات 1943 على الأقل، وُصمت هذه الانتخابات تقريباً بالتزوير. بل تكاد تكون انتخابات 1972 وحدها التي استُثنيت من اتهامها بالتزوير، وكانت قد اعتمدت دائرة قانون 1960. وهو القانون الذي سبّب نعت اثنين من ثلاثة انتخابات أُجريت في ظلّه بالتزوير، هي انتخابات 1964 و1968. قيل كذلك عن انتخابات 1957 التي اعتمدت دائرة متوسطة بين الفردية والقضاء إنها اتسمت بالتزوير. كذلك من قبل انتخابات 1947 فاتحة حقبة التزوير، رغم أخذها بالدائرة المحافظة. وهي الصفة التي ستلازم الانتخابات المتتالية في الحقبة السورية، إذ شهدت خليطاً عجيباً من الدوائر المتنافرة وغير المنسجمة، فلم تنجُ انتخابات أيٍّ من دورات 1992 و1996 و2000 من اتهامها بالتزوير.
كمنت مشكلة كل انتخابات نيابية في المرجعية التي أشرفت على إجرائها، لا في تقطيع الدوائر التي لحظها القانون فحسب. خبِر لبنان كل الدوائر، فقيل في كلها إنها كانت مزوّرة أو شبه مزوّرة. حتى انتخابات 2005 التي لم تُدرها المرجعية السورية، إلا أنها كانت في عهدة ثلاثة مفوّضين هم السفيران الأميركي جيفري فيلتمان والفرنسي برنار إيمييه وممثل الأمين العام للأمم المتحدة المكلف مراقبة تنفيذ القرار 1559 تيري رود لارسن، قيل فيها ما هو أسوأ: الغدر والخيانة. كان التحالف الرباعي ـ الذي قبل به على مضض الرجال الثلاثة ورابعتهم دمشق ـ هو المرجع الذي أدار جزءاً رئيسياً من تلك الانتخابات، وأفضى إلى نتائجها الحالية التي انبثقت منها الغالبية النيابية الحاكمة. يومذاك، لم يرضَ البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير بما كان قد حصل. بيد أن حجم الانقلاب على سوريا، وحجم الانقلاب على الانقلاب، أوجبا التحالف الرباعي. لم يكن في جيب البطريرك إلا وعد ثمين أعطاه إياه قبل أشهر الرئيس رفيق الحريري بتأييد قانون 1960.