strong> يافوية تختصر حياتها بجروح ثلاثة: فلسطين، الزوج والابنيعرفها سكان مخيم صبرا من انحناء ظهرها الذي يزيد يوماً بعد يوم. يدلون إلى «منزلها» وهم يأسفون لحالها، متعاطفين مع مأساتها التي امتدّت عقوداً لتختصر بقصتها تاريخ مرحلة مريرة في حياة الفلسطينيين واللبنانيين على حدّ سواء. إنها أم أحمد الشرقاوي
علي السقا
قبل عامين، كانت جالسة بجانب الخيمة التي نصبتها عوائل الأسرى والمفقودين في السجون السورية في باحة حديقة الإسكوا. ترصد عيناها حركات الصحافيين، وتنصت إلى التصريحات التي تتلى. فجأة، تتجه نظراتها إلى الأسفل، كأنها تسعى لانتشال شيء ما. تغوص يدها في كيس أزرق من الخيش كانت تتأبطه، وتخرج صورة مكبرة عن بطاقة لاجئ فلسطيني، هو ابنها، وتروح تحدّق فيها ملياً. كان هذا في ربيع عام 2006.
بعد سنتين، تترجل من سيارة أجرة أقلّتك إلى أحد الشوراع المفضية إلى مخيم صبرا. تسأل أشخاصاً كثراً وتعرّج من زاروب إلى آخر محاولاً إيجاد ضالّتكعرفتها! أم أحمد، المنحنية؟ الله يعينها» يجيب صاحب دكان متواضع، مشيراً إلى مبنى مجاور. تكمل سيرك لكن قفزاً هذه المرة، خوفاً من تلوّث ملابسك إن وطأت حفرة اختلطت فيها مياه الصرف بأوساخ الشارع. فناء طويل ومظلم يتراءى أمام عينيك، تستعين بالولّاعة لرؤية الدرج، وتكمل طريقك صعوداً. تستوقفك في كل طبقة صور لشهداء فلسطينيين وعبارات خطّت بألوان مختلفة، كـ «تحيا فلسطين» و«القدس عربية». تصل إلى الطبقة الرابعة وتقف حائراً. كلّ طبقة في المبنى المذكور والمعروف بمستشفى غزة تحوي ما يقارب العشرين منزلاً (كانت غرفاً للمرضى في ما سبق). تزيح بيدك ستاراً يفصل بين غرفتين متقابلتين، وتطرق بهدوء باباً لم يُغلق بإحكام، كأنه ينتظر أحداً. تطلّ امرأة ازداد انحناء ظهرها عما كان عليه قبل عامين، تدعوك إلى الدخول. تخبرها أنّك سألت عنها سابقاً فتخبرك أنّها ذهبت، كعادتها، إلى سوريا في رحلة للبحث عن ولدها المعتقل في السجون السورية.
هي رحلة دائمة منذ ذلك المساء الذي تذكره «الست آمنة» كأنه الأمس: «دقّ الباب عند الساعة الواحدة من بعد منتصف الليل، وسمعنا صوتاً ينادي أحمد «تعا كلّم»، وكانت المرة الأخيرة. «خُطف وسُلّّم إلى فرع التحقيق العسكري في سوريا» تقول. منذ ذلك الحين وأم أحمد لم تألُ جهداً لمعرفة مصير ابنها «حاولوا إقناعي عبر شخص وسيط بأن أحمد لقي حتفه مع مجموعة من عشرين شخصاً في عملية إبادة جماعية، لكني لم أصدّق، لأنني كنت متيقّنة من أن أحمد قد سُلّم فوراً إلى السوريينجابت كل فروع الأمن السياسي وسجون الاعتقال في سوريا، لكن بلا جدوى، إذ لم يسمح لها برؤية ابنها «لُبّس أحمد، كما العديد من الأبرياء، تهمة العمل ضد سوريا».
أم أحمد لا تملك شيئاً: لا ميراثاً ولا دخلاً ثابتاً. جلّ ما ورثته هو حياكة الصوف التي تعود عليها بمردود مادي متواضع جداً، لا يغطي غالباً كلفة سفرها المتكرّر إلى سوريا، فكيف إذا كان عليها دائماً أن تدفع «إكرامية» لاستغلاليين كثر. تلك المرأة المفلسة من كلّ شيء، سوى من حلم آخذ في الجموح لرؤية ولدها ولو قبل موتها بدقائق، عرضت جدياً على أحد «السماسرة» أن يأخذ إحدى عينيها ويبيعها. تصمت برهةً، من ثم تردف «تكفيني عين واحدة لأتأمّل بها أحمد وأتفحّص تفاصيل وجهه».
فلسطين جرح آخر في ذاكرتها، «ما زال طعم فاكهة الجميز في أسفل لساني. كأن حباتها الصغيرة مستقرة بين أصابعي الفتية. أقلّبها بين أطراف أناملي. أتحسّسها قبل أن أضعها في فمي مغلقة فكيّ عليها. بيتنا العربي كانت تتوسطه نافورة لا تكف مياهها عن إصدار أصوات أتشوّق لسماعها الآن»، تروي العجوز السبعينية مسندة رأسها إلى جدار خلفها.
تتقلص عضلات وجهها ويتسع بؤبؤا عينيها، فيما ينحني رأسها إلى الخلف عند سؤالها عن لحظة مغادرتها منزلهم في يافا. تأخذ نفساً عميقاً قبل أن تشرع في حديثها. تدرك لحظتها أنك ستتلقف مشهداً يتقلص عدد رواته يوماً تلو الآخر. «قصتنا بدأت كالتالي: كان أخي الصغير سائق سيارة أجرة، وطُلب منه ذات يوم أن يوصل إحدى العائلات، وإذا بنا نسمع نبأ اختطافه ومن ثم استشهاده وركاب سيارته على أيدي جنود الاحتلال الإسرائيلي في مجزرة دير ياسين».
بدأت العائلة تفقد أفرادها واحداً تلو الآخر، «استشهد أبي وأخي برصاص قناص إسرائيلي عند باب بيتنا وهما عائدان من العمل. كنت في السابعة عشرة من عمري عندما اضطررنا لمغادرة يافا بحثاً عن ملجأ يقينا ممارسات العصابات الإسرائيلية. كنت حينها أعمل في الخياطة، ولما كنت بارعة، ذاع صيتي في أرجاء يافا «بالست آمنة». بقيت في حوزتي كنزة صوف كحلية اللون كنت قد شارفت على الانتهاء من حياكة أكمامها عندما داهمنا الوقت وأجبرنا على الهرب، سلّمني إياها رجل من الخليل كان يعمل ممرضاً، إلا أنه بعد سؤالي عنه لاحقاً عرفت أنه قد توفي في مستشفى القدس متأثراً بجراحه».
آمنة (أم أحمد)، الوالدة، والشقيق صالح هما من بقي حياً من عائلة الحصري قبل أن يجبروا على الرحيل في عام 1948، «كان القناص الإسرائيلي مرابطاً عند مرتفع جبلي يدعى «الحاووز» قبالة الحي الذي كنّا نقطن فيه، رصاصة في القلب أو في الرأس كانت كافية لإثارة الرعب في قلوب أهل المنطقة. ما زلت أتذكّر جارتنا داخل بيتها وهي ممددة أرضاً وابنتها الرضيعة على صدرها وقد تمزق قلبها بعد إصابته برصاصة القناص».
هربوا براً في شاحنة أقلّتهم خارج يافا «كانت تحوي سبعين فرداً، نساءً وشيوخاً وأطفالاً. كنا نقف مزدحمين، بعضنا بجانب البعض الآخر، داخل الشاحنة كالأغنام. قطعت السيارة طرقاً جبلية ووعرة، ومن ثقل وزن الشاحنة تعطلت المكابح وكادت تلك الحادثة تهلكنا جميعاًكانت غزة المحطة الأولى في رحلة زواج متعثرة عاشتها أم أحمد، والمعبر الثاني إلى الرحيل عن فلسطين نهائياً. «بقيت أنا وأمي بمفردنا في غزة. عدت لمزاولة مهنة الخياطة، فيما سافر أخي إلى مصر للعمل في قناة السويس. الخياطة عرّفتني إلى جدة زوجي التي أتت في ما بعد بصحبة «حماتي» وخطبتني لحفيدها لأنني كنت فتاة يتيمة ووحيدة».
رحلت عن غزة عام 1968 إلى الأردن، فيما المطر كان يهطل بغزارة، أما زوجي فقد تمكن من الهرب من معتقل إسرائيلي بعد أسره عقب حرب 1967 إلى جرش في الأردن، وهو الذي كان ينقل السلاح إلى المقاتلين في فلسطين عن طريق الجنوب عبر الدواب.
في ذلك الوقت، اعتقد الجميع أنه توفي، إلا أن الصدفة لعبت دورها، فقد التقى زوجها امرأةً تدعى (أم عايش) آتية من غزة للبحث عن ولدها في الأردن، «وكلّفها إخباري بأنه لا يزال حياً وهو يقطن الآن في «دار» عمه بمخيم الحسين». شارك الزوج في حرب 1973، بعدها لحق بها إلى الأردن، «ومن هناك حزمنا أمتعتنا وقررنا الرحيل إلى لبنان»، حيث أقامت مع ابنها وابنتها... إلى أن بدأت مأساتها الأولى في لبنان مع استشهاد زوجها عام 1976 عند السفارة الكويتية.


شال أبيض
تقبض أم أحمد بيدها على كيس أبيض اللون من النايلون، تفكّ عقدته، وتسحب كرتين من الصوف الأبيض والأسود. تنظر إليك طويلاً قبل أن تعلن «مفاجأتها»: يتناسق لون الشال الأبيض مع لون كنزتك وبنطالك. سأحيك لك «شالاً» كهذا الذي تراه على الأريكة هدية مني إليك». ترتسم على وجهك ابتسامة خجولة، ومدركة لرغبة السيدة في ردّ جميل تعريف الناس بقصتها إليك فلم تجد ما تقدّمه سوى حياكة شال...
تهبّ واقفاً، تمسك بالشال الموضوع على الأريكة، تلفّه حول عنقك على سبيل التجربة. تشرد للحظات فيما عيناك تتفحّصان شكله وتقرآن بين خيوط الصوف معنى ضحكة هستيرية تطلقها قبل أن تجيبك على سؤال «عبثي» كنت طرحته على نفسك وعليها «ماذا عن فلسطين؟» ... تقول: «فلسطين ماتت يا ولدي، واحنا كمان رح نموت».