في وقت يشرف فيه العمل على إنجاز مبنى دراسة الآثار البحرية في صور على الانتهاء، تبرز مشكلة استقالة فريق عمله، ما يهدّد مجدداً بتأخير افتتاحه. هذا المركز الذي كان سيكسر احتكار إسرائيل للدراسات والأبحاث البحرية في منطقتنا، غرق في الروتين الإداري قبل أن يبدأ عملهجوان فرشخ بجاليخبر جيد: بعد انتظار عامين، ينتهي في الأسابيع المقبلة تأهيل مركز دراسة الآثار البحرية في صور، الذي لحظه مشروع الإرث الثقافي.
خبر سيئ: استقال الفريق المكلّف إدارة هذا المركز من عمله بعد أكثر من عام على توقيع عقد معه، لأسباب لم تخلُ من فردية، لكنها تكشف الكثير من مساوئ الروتين الإداري العام الذي يقتل كلّ رغبة في التغيير في نفوس شغوفين بعملهم.
إلى التفاصيل.
لحظ مشروع الإرث الثقافي إنشاء مركز لدراسة الآثار البحرية وتمويله في صور. وجرى خلال العامين الماضيين العمل على تحويل مبنى المدرسة الإنكليزية القديمة في صور إلى مبنى لهذا المركز. في هذا الوقت، كانت المديرية العامة للآثار وقّعت عقداً مع العالمين في الآثار إبراهيم نور الدين ومساعدته زينة حداد، ليشكلا نواة فريق العمل الذي سيتولى مسؤولية هذا المركز.
وخلال أكثر من عام، غرق نور الدين وحداد في «محاولات» إنجاز شيء ما من خلال «مداومتهما» في مكتبيهما المؤقتين في بيروت، في انتظار الانتهاء من تأهيل المبنى، قبل أن يقدّما استقالتيهما تباعاً، لنصل إلى وقت أصبح فيه المبنى جاهزاً، لكنه خال من أي فريق بشريstrong>أسباب الاستقالة
تضيع أسباب الاستقالتين بين الشخصية والعامة. إبراهيم نور الدين، عالم الآثار المختصّ بالآثار البحرية الذي كان مسؤولاً عن المركز، لا يخفي أن السبب الأول الذي دفعه إلى تقديم استقالته هو «الرغبة في إنجاز أطروحتي، وخصوصاً أني حصلت على منحة من الدولة الكندية لهذه الغاية».
لكن، وإن كان هذا العذر الأوّل، فهو ليس الوحيد. «العمل ضمن الشروط الإدارية التي تفرضها الدولة يمنعك من تحقيق أي هدف. في الهيكلية الإدارية الكثير من التعقيدات، بالإضافة إلى قلّة الاطلاع والمعرفة بهذا الاختصاص، ما يخلق حالة من الضياع بين الجهل الذي أواجهه وشغفي بالآثار البحرية، شغف لم أستطع أن أمارسه في تلك الظروف، فتركت منصبي».
السبب نفسه تورده حداد، التي تركت منصبها هي الأخرى بعد بضعة أشهر من رحيل زميلها. «هناك خمول في الإدارة، خمول يدخل إلى الروح، وروتين لم أتوقع أن أجده في إدارة، موظفوها شغوفون بعملهم». تقدّم أمثلة: «كتابة التقارير لا تنتهي، والعمل الإداري يؤخر إلى حد كبير العمل على الأرض، علماً بأن الأخير يجب أن يشكل العمود الفقري لعملنا». إلى ذلك، «التأخير المستمر في إنجاز المركز أبطأ العمل، ولم أجد نفسي في النهاية قادرة على القيام بما أردته، لم أحقق هدفي من التحاقي بالمديرية العامة للآثار فغادرت».
مواصفات «الوظيفة»
يعترف مسؤول الآثار البحرية في صور علي بدوي بأن الروتين الإداري «يؤخر الأحلام»، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن هذا الروتين هو من «مواصفات الوظيفة في القطاع العام، ويجب أن يكون الإنسان واقعياً». بالنسبة له، المركز الذي لم يفتح أبوابه بعد «لن يقفلها حينما ينتهي العمل من إنشاء المبنى وتبدأ أعمال تجهيزه، لأن مركز الدراسات البحرية هو واحد من أحلام المديرية العامة للآثار التي باتت قيد التحقق».
من جهته، يعيد المدير العام للآثار في لبنان، فريديريك الحسيني، سبب استقالة نور الدين إلى رغبة الأخير في إنجاز أطروحته، مؤكداً أن «المديرية ستبحث لاحقاً في طرق أخرى لفتح أبواب المركز والعمل فيه، وستبحث عن طاقم آخر توقع معهم عقود عمل جديدة».
راوِح مكانك!
بين الأسباب التي يوردها نور الدين وحداد، والتي تبدو منطقية، وردّ المديرية العامة للآثار الذي لا يخلو من «واقعية» أيضاً، تبقى المشكلة قائمة، وهي مرتبطة أيضاً بواقع الدولة اللبنانية المرير، إذ يتطلب توقيع العقود في الإدارات اللبنانية وقتاً طويلاً، لأن الدولة اللبنانية تمنع التوظيف، ويجب أن تمرّ عقود العمل عبر مجلس شورى الدولة. وكان توظيف عالمَي الآثار اللذين التحقا بالمديرية عبر مشروع الإرث الثقافي قد احتاج إلى أكثر من سنة لإنهاء المعاملات الإدارية. فمتى سيأتي الفريق الثاني إلى المركز؟ ومن يضمن أنه لن يواجه المشكلات الإدارية ذاتها؟
في هذا الإطار، يعرض نور الدين، الموجود في كندا حالياً، «نتيجة» عمله داخل مكاتب المديرية العامة للآثار، الذي سمح له بأن «يفهم ويرى بأم العين كيف تتأخر الأمور وتضيع في غياهب النسيان رغم كل الجهود». ويؤكد أن هذا الواقع ليس حكراً على المديرية «بل على كل دوائر الدولة». رغم أنه كان يرغب جدياً بأن يلعب المركز دوره في تطوير هذا الاختصاص في لبنان، ويحفّز بعضاً من الشباب اللبناني على دراسته والعمل فيه. أما حداد، فقد عادت إلى منصبها السابق في وزارة السياحة «حيث هي أكثر حرية» لإخراج الأفلام الوثائقية. في عيني الاثنين وفي نبرة صوتيهما «حرقة»، فهما أرادا فعلاً أن يغوصا في البحر ويخبرا جزءاً من تاريخنا نجهله، ولكن بين حبّهما لعملهما والروتين الإداري هاوية سحيقة من الصعب تخطيها. رغم ذلك، يختم نور الدين حديثه بتفاؤل، الآن وبعد أن أعطاه هذا العمل «الخبرة الضرورية لمعرفة كيفية تفادي مشكلات مماثلة للمستقبل، يؤكد أنه ينوي العودة إلى العمل في لبنان، حتى وإن لم يكن ذلك ضمن «دوام كامل» لأن «الشاطئ اللبناني يحوي أهم الآثار الغارقة في كامل أرجاء المتوسط».
الجدير بالذكر أن عدداً كبيراً من موظفي المديرية العامة للآثار يرى أن الهيكلية الإدارية في الدولة اللبنانية تقتل شغفهم وتدخلهم في دوامة الروتين، وأن المحافظة على الحماسة في العمل تتطلب مجهوداً خاصاً بهم. هذا المجهود لم يكن ليبذَل لولا أن البعض يرى في وظيفته «نوعاً من العطاء الدائم للوطن، وإيماناً منه بالمؤسسات العامة».
أمام الوضع القائم، حيث طاقم الموظفين لا يكفي لتغطية قطاعات العمل كلها، وجدت المديرية نفسها مرغمة على العمل مع أهل الاختصاص بعقود توقّع حسب المشروع الواحد، وتدفع أجورها بناءً لأيام العمل. هذا الحلّ يرضي الفريقين، فالعلماء يعملون فترة أقل بأجور عالية، ولهم كامل الحرية في التحرك، والمديرية تنجز البعض من مشاريعها. ترتيب قد يحلّ جزءاً من المشكلة، لكن كلفته مرتفعة على الوطن الذي يخسر بهذه الطريقة علماء ملتحقين بدوام كامل.


حصرية
إسرائيلية!
يشكل مركز الدراسات البحرية المشروع الأوّل من نوعه في لبنان وسوريا والأردن. وقد رُصدت له ميزانية من مشروع الإرث الثقافي، وكان العمل فيه يتضمن عمليات الغوص في المياه الإقليمية لرسم خريطة للآثار الغارقة والقيام بمسح أثري للشاطئ
اللبناني.
الجدير بالذكر أنّ هذا المركز كان سيمثّل المنافس الوحيد لمركز الآثار البحرية الإسرائيلية في حيفا الذي يتطوّر سنة بعد سنة، وتزيد معداته التي باتت تتضمن غواصات خاصة. كما ينشر أفراد هذا المركز دراساتهم في كبرى المجلات العلمية، وفي غياب المنافسة العربية، تكون تلك الدراسات المرجع الوحيد المتوافر عن الآثار الغارقة في غرب المتوسط، وخصوصاً أن كبرى السفن الفينيقية الغارقة عثر عليها في إسرائيل، وهي اليوم مشروع دراسة واسعة وطويلة الأمد يزيد تمويله كلّ مدة.