أنطوان سعدأما وقد بات يتضح أن مجمل الضغوط الإقليمية والدولية لن تنجح، أقله حتى الآن، في تحرير الاستحقاق الرئاسي من تجاذبات المطامع وصراعات النفوذ الناتجة منها، قبل موعد قمة دمشق، مع ما يعنيه ذلك من دخول الاستحقاق والبلاد في نفق مظلم لا يمكن التكهن بنهايته، فإن القادة السياسيين كافة مدعوّون إلى أن يُعيدوا النظر في مواقفهم واستراتيجياتهم وانعكاساتهما على مستقبل الحياة السياسية اللبنانية القائمة على مفهومَي التعايش والتشارك.
وفي اعتقاد المراقبين، تقع على القادة المسيحيين، الموالين والمعارضين، المسؤولية الكبرى في إخراج البلاد من مأزقها للأسباب الآتية:
ـ أولاً لأنهم وحدهم القادرون على فرض حل، إذا توافقوا، بعد فشل كل الوساطات والمبادرة العربية والدولية.
ـ ثانياً لأن لهم مصلحة كبيرة وحيوية في ألّا يأتي الاتفاق عن غير يدهم، لأنه حتماً سيكون في هذه الحال على حسابهم، تماماً كما جرى عندما عُقد التحالف الرباعي يوم انسحبت القوات السورية من لبنان.
ـ ثالثاً، بعدما سلّف القادة السياسيون المسيحيون، كلٌّ الطرف الذي تحالف معه، الكثير حتى كادوا يُجهزون مع غيرهم على ما بقي من مقومات الدولة اللبنانية التي أنجزها أجدادهم بعد مئات السنين من النضال، ليس من يجهل في لبنان أن قادة تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، وحركة أمل وحزب الله ليسوا قادرين على أن يرفضوا لهم مطلباً يصبّ في نهاية الأمر في خانة إنهاء الأزمة مع حفظ ماء الوجه للطرفين.
ـ رابعاً، على هؤلاء القادة أن يعوا أن زمن الشكوى وانتظار تدخل القوى العظمى لإعادة الأمور إلى نصابها في لبنان قد ولّى إلى غير رجعة، على الأقل في المدى المنظور. وبالتالي، لن يتدخل أي طرف أجنبي لكي يعيد إلى المسيحيين دوراً فاعلاً في المعادلة اللبنانية، لذلك عليهم أن يعيدوا هم بأنفسهم صياغة هذا الدور. وبدل أن يكونوا مصدر شكوى وطلباً للتدخل لحل المشكلة، عليهم أن يصبحوا حلاً للمشكلة القائمة بين السنّة والشيعة.
وخير دليل على واقع المسيحيين الصعب لجهة أنهم متروكون دولياً وإقليمياً، هو زيارة رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع إلى الولايات المتحدة. فهذه الزيارة التي تمثّل خرقاً تاريخياً مهماً للغاية لتجاهل المجتمع الدولي للمسيحيين اللبنانيين منذ انهيار عهد الرئيس أمين الجميل بين أيلول 1983 وشباط 1984، تحت ضربات سوريا وحلفائها وبخاصة حركة أمل برئاسة نبيه بري والحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط، لم تكن لتبصر النور لولا الجهود الهائلة المبذولة من قادة بارزين في الموالاة مسموعي الكلمة في واشنطن التي يهمها أيضاً أن تقوّي طرفاً مسيحياً في مواجهة العماد ميشال عون المتمرد على سياستها.
انطلاقاً من هذه المعطيات، لا بد من ديناميكية جديدة يطلقها رئيس التيار الوطني الحر بالتنسيق مع البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير باتجاه خصومه وحلفائه المسيحيين، ودعوتهم إلى الاجتماع في بكركي بحضور قائد الجيش العماد ميشال سليمان، الذي كرّسه النادي السياسي اللبناني مرشحاً رئاسياً توافقياً وقطباً مارونياً بارزاً للبحث في انتخابات رئاسة الجمهورية، والاتفاق على مجموعة ثوابت تحفظ هواجس جميع الطوائف والأطراف السياسية اللبنانية، من غير التطرق إلى الحصص الوزارية، لا من قريب ولا من بعيد. ومن ثم مفاتحة كل طرف مسيحي حلفاءه في الموالاة والمعارضة ومطالبتهم بإجراء الانتخابات الرئاسية دون شروط وفوراً باعتبار أن كل الحقوق يفترض أن تكون محفوظة في ورقة الثوابت المشار إليها بضمانة التوافق المسيحي عليها.
أما بالنسبة إلى هوية المرشح الرئاسي، فلا يزال العماد سليمان رسمياً المرشح التوافقي الوحيد. وإذا كان ثمة من لا يعتقد ذلك فعليه أن يعلن موقفه، لكي يصار إلى البحث في أسماء أخرى من لائحة البطريرك صفير أو من خارجها. إذ ليست الأسماء التوافقية ما ينقص بل القدرة على إثبات الموهبة في القيادة دون التسبّب بانقسامات داخل المؤسسات الدستورية وغيرها من المؤسسات. وفي هذا الإطار، لا بد من الإقرار على رغم كل ما جرى من خضات وأحداث منذ بداية الفراغ الرئاسي أن العماد سليمان، بالتعاون مع سائر ضباط القيادة من كل الطوائف الذين لا يجوز أيضاً إغفال دورهم، لا يزال يحافظ على وحدة الجيش وتماسكه، فيما يبدو كل شيء مهتزاً في لبنان. إنه صورة عن الدور المسيحي المطلوب للمؤسسات السياسية.