نقولا ناصيفرغم دعم الغالبية الحكومية المنبثقة من الغالبية النيابية وجهة النظر القائلة بعدم مشاركة لبنان في القمة العربية في دمشق نهاية هذا الشهر، فإن الخيار النهائي غير جاهز بعد، وهو ينتظر مصير الجلسة السابعة عشرة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في 25 آذار. وفي ظلّ غموض يحيط بالموقف الحكومي، وخصوصاً موقف الرئيس فؤاد السنيورة، توحي مؤشرات ثلاثة بوجهة القرار المؤجل:
ـ لن يشارك السنيورة شخصياً في قمة دمشق.
ـ لن تكون المشاركة المحتملة طبيعية على غرار ما درج عليه حضور لبنان القمم العربية. ولا يتصل الأمر بغياب الرئيس اللبناني عنها فقط، بل أيضاً بالطريقة التي سلّمت بها دمشق لبنان الدعوة إلى القمة، المنافية للأصول التقليدية المتّبعة في علاقات الدول بعضها ببعض.
ـ ينظر السنيورة إلى مشاركة لبنان في القمة من بوابة أولوية القضية على ردّ الفعل الانفعالي. وبحسب وزير بارز، يقارب رئيس الحكومة الموقف من خلال الجدوى التي تجعل المشاركة ـ لا الحضور ـ قادرة على إيصال صوت لبنان إلى العرب الملتئمين في دمشق، وإن برئاسة الرئيس السوري بشار الأسد. وأكثر من أي طرف آخر في الغالبية الحكومية، يعتصم السنيورة بالصمت.
ومع أن مقاطعة القمة موقف شعبي أكثر جاذبية واستفزازاً، وطريقة ملائمة كذلك للرد على الدعوة بتحية مماثلة، تتزايد وتيرة الحض على المشاركة، وخصوصاً أن السعودية ومصر لن تقاطعا قمة دمشق، وهما الدولتان الأكثر تضامناً مع لبنان في المواجهة التي يخوضها مع سوريا. على نحو كهذا، فإن البغض والكراهية المتبادلين بين رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط والأسد ليسا أكبر من ذينك اللذين تبادلهما الرئيسان كميل شمعون وجمال عبدالناصر على أبواب القمة الأولى في بيروت في تشرين الثاني 1956. لم يصدّق عبد الناصر الشعار الذي رفعه شمعون لتلك القمة العاجلة، وهو التضامن مع مصر على أثر العدوان الثلاثي عليها قبل أسابيع، إلا أنه لم يقاطع قمة بيروت، وكلّف سفيره عبد الحميد غالب تمثيله فيها، وكان قد حضرها ثلاثة ملوك هم السعودي سعود والأردني حسين والعراقي فيصل بن غازي والرئيس السوري شكري القوتلي. كان الزعماء الأربعة هؤلاء هم محور استفحال النزاعات العربية ـ العربية وتناحر أنظمتها وتناقضاتها آنذاك قبل سنة من إعلان حلف بغداد. الأمر نفسه في القمتين العربيتين عام 1964 في مصر. لم يذهب الرئيس فؤاد شهاب إلى الأولى في كانون الثاني، وانتدب رئيس الحكومة رشيد كرامي لتمثيله. ولم يذهب إلى الثانية في أيلول، وانتدب خلفه الرئيس المنتخب شارل حلو قبل أقل من 20 يوماً من تسلّمه صلاحياته الدستورية.
ومع أن قمة دمشق غير مرشحة لإخراج الأزمة السياسية والدستورية اللبنانية من مأزقها، ولا لمعالجة الخلاف السعودي ـ السوري، ولا مناقشته فيها حتى، فإن المبادرة العربية بدورها لن تحظى إلا بتأييد ظاهري على نحو ما يصفها به مسؤول حكومي بالقول إنها أصبحت أشبه بدراجة تقع ما إن تتوقف. وهذا يقتضي أن تستمر في السير وإن دونما جدوى. لكن ذلك يشير أيضاً إلى حاجة المبادرة إلى مزيد من الجهود التي تجعلها في حركة دائمة ومراوحة، في انتظار الوقت الملائم لوضعها موضع التنفيذ. حركة مستمرة كهذه تبعدها في الوقت نفسه شيئاً فشيئاً عن الأهداف التي توخّتها مذ أعلنت للمرة الأولى في 5 كانون الثاني المنصرم:
1 ـ تحوّلها من مبادرة إلى وساطة. وهو الإطار الذي أحاط بالمهمة الأخيرة للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الشهر الفائت. وعوض أن تكون مبادرة برسم تطبيق بنودها الثلاثة، أمست مادة تجاذب وتباين وتفسيرات متضاربة بين الأفرقاء العرب الذين أضفوا طابع الإجماع على إقرارها، والأفرقاء اللبنانيين أيضاً وقد استهوى كلاً منهم تفسيرها وفق الطريقة التي يمكّنه تنفيذها من الحصول على مكاسب سياسية إضافية.
2 ـ انتقلت مهمة موسى من حمل الأطراف اللبنانيين المتنازعين على التسليم بالمبادرة بوضعها موضع التنفيذ، إلى الدخول في فخ التفاصيل اللبنانية عبر رعايته أكثر من مرة حواراً ثلاثياً بين الموالاة والمعارضة، فأصبح هو الآخر طرفاً مفاوضاً في مبادرة لم تُعدّ للتفاوض أساساً، وقد استجابت بنودها الثلاثة سلفاً لمطالب فريقي النزاع اللبناني. فإذا بالحوار الثلاثي تارة يطرح أفكاراً جديدة تتجاوز ما نصّت عليه المبادرة، وطوراً يحمل موسى على مجاراة الطرفين في اجتهاداتهما، فتولد من المبادرة الأم أخرى تحول دون التوصل إلى ما رمى إليه تحرّك الجامعة العربية، وفي نهاية المطاف إلى تعطيل المبادرة كلياً.
3 ـ إدراج الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب في القاهرة، تمهيداً لقمة دمشق، بند العلاقات اللبنانية ـ السورية في صلب الأزمة اللبنانية، وتالياً في صلب المبادرة كبند إضافي، يجعل تنفيذ المبادرة أكثر تعقيداً وإن هدَفَ البند الجديد إلى تشخيص جانب رئيسي من الأزمة وهو العلاقات اللبنانية ـ السورية، وتجاهل ما ستتجاهله قمة دمشق، وهو الخلاف السعودي ـ السوري على لبنان. بيد أن البند الجديد في المبادرة توخّى كذلك، وللمرة الأولى منذ عام 2005، وضع العلاقات اللبنانية ـ السورية تحت المظلة العربية، وتحديداً تحت مظلة الجامعة، ومن بعدها القمة المرتقبة التي ستجعل من سوريا رئيسة القمة العربية لسنة مقبلة، وهي على أبواب مواجهة مزيد من الضغوط الدولية والعقوبات الأميركية.
ويعكس البند الجديد، خلافاً لما تنكره دمشق، الترابط الحاد بين الأزمة الداخلية اللبنانية وعلاقات البلدين، في حين تصرّفت سوريا باستمرار كطرف غير معني مباشرة بالنزاع اللبناني ـ اللبناني، وإن حدود تأثيرها عليه هي علاقتها بالمعارضة كحليف قوي لها لا تضغط عليها إلا بمقدار ما تتنازل الموالاة في الحكم لمصلحة بناء توازن سياسي جديد ومتكافئ في الداخل. تبعاً لذلك، استقبلت سوريا دائماً بحرارة المواقف العربية، وأخصها من مصر وقطر والسودان وسلطنة عمان والمواقف الأوروبية التي حضتها على المساعدة في سبيل إنجاز انتخابات الرئاسة اللبنانية، واستقبلت موسى بترحاب حين جاء طالباً وساطتها لحل المأزق اللبناني. انتقد بعض العرب تباطؤها في التعاون، من غير أن يدينها أحد بالعرقلة وتمديد أجل شغور الرئاسة اللبنانية.