جان عزيز 16 عاماً وبضعة أسابيع تفصل بين الزيارة الأولى لسمير جعجع إلى الولايات المتحدة في الأسبوع الثاني من شباط 1992، وزيارته الثانية إليها اليوم. أمور كثيرة تغيّرت بين التاريخين، أشخاص كثر غابوا، أو تبدّلوا، أو تقلّبوا وانقلبوا، لكن ثمة ثوابت تبدو هي هي، للناظر بعين مصالح الدول العظمى ومصائر الشعوب الصغرى.
مطلع عام 1992 ذهب جعجع إلى واشنطن، ركناً أساسياً مفترضاً، في تركيبة الطائف التي رعاها الأميركيون. مفترضاً كان، لأن الكثير من مقتضيات «وثيقة الوفاق الوطني»، كما سمّيت، كان قد تحول حبراً على ورق، وخصوصاً في مسألتي السيادة الخارجية لناحية الدور السوري في لبنان، والتوازن الداخلي لجهة المشاركة المسيحية في النظام. فبعد أقل من 15 شهراً على انقلاب 13 تشرين الأول 1990، كان جعجع قد بات شبه مدرك أن الطائف نفسه هو ما تم الانقلاب عليه، وأن ثمة من «بلف» الآخر في تلك اللعبة المميتة.
ذهب قائد القوات اللبنانية إلى واشنطن حاملاً مطلبين أساسيين، عشية استحقاقين مفصليين. والمطلبان والاستحقاقان مرتبطان بالمسألتين ـ المعضلتين: المطلب الأول كان الأمل في الحصول على تعهد أميركي بإلزام النظام السوري تنفيذ «إعادة تمركز» قواته بعد أشهر، أي من أيلول 1992، وفق القراءة «المتفائلة» للطائف نفسه، لعلّ ذلك ينقذ معضلة السيادة من الفخ السوري. أما المطلب الثاني فكان الأمل بالتزام أميركي حيال إعادة التوازن الداخلي في تكوين السلطة اللبنانية، عشية ما كان قد بدأ يتداول، عن عزم دمشق إجراء انتخابات نيابية في ربيع العام نفسه، تهدف من ورائها إلى وضع يدها على كامل مواقع السلطة في بيروت.
لم يلتق جعجع في واشنطن أكثر من إدوارد دجيرجيان، مساعد وزير الخارجية، والسفير السابق في دمشق، وتلميذ جايمس بايكر النجيب، ومدير معهد الأخير في جامعة رايس، والحواري بامتياز لوليد المعلم نفسه، أيام الأخير الأميركية، وأيام شهر العسل بين واشنطن ودمشق. ومع ذلك عاد جعجع إلى بيروت يومها، بتفاؤل معلن، لم تلبث التطورات الميدانية أن بددته.
مضت أعوام طويلة على تلك الزيارة، قبل أن يكتشف من يستخلص الأمثولات من المسيحيين، أن فشل ذلك المسعى، عائد في العمق إلى الأسباب الثلاثة الآتية:
أولاً، لأن أميركا الخارجة من حرب الخليج الأولى، والمزهوّة بسقوط موسكو وانطلاق عملية مدريد وإطلاق فكرتها الهيولية للنظام العالمي الجديد، لم تكن قد بلورت بعد تصوراً واضحاً ومفصّلاً للأزمات الإقليمية الثانوية، وبالتالي لم يكن لديها ملف قائم بذاته اسمه لبنان.
ثانياً، لأن الثابتة الاقليمية في رؤية واشنطن للشرق الأوسط، أي إسرائيل، لم تكن قد أقلعت بعد عن نظرية الرهان على النظام السوري في لبنان، للغايتين الشهيرتين: ضبط المستنقع اللبناني كي لا يتحول بؤرة إزعاج للسلام الآتي، ومكافأة دمشق على سيرها قدماً في اتجاه هذا السلام.
ثالثاً: إن مطلب جعجع اللبناني الداخلي المسيحي، كان مشوباً بنقصين أساسيين: أولاً إنه لم يصدر عن إجماع فئة قادرة على الشراكة الأميركية، وثانياً إنه لم يكن ينسجم مع مقتضيات السببين السابقين. هكذا اندثر التفاؤل، وما لم يقله دجيرجيان الدبلوماسي لجعجع، قاله زميل عسكري له في البنتاغون إلى مسؤول لبناني آخر: يا صديقي، يبدو أنكم لم تحسنوا قراءة الطائف، ففلسفته تقضي ببقاء سوريا عندكم، لا انسحابها.
أعوام ستة عشر مضت على ذلك، كله تغيّر، أو جلّه، لكن الأسباب الثلاثة، متكيّفة مع متغيّرات المرحلة، لا تزال صالحة للبحث:
أولاً، هل بات لواشنطن تصوّر تفصيلي للمنطقة، ترى من ضمنه لبنان بلداً تعددياً متوازناً، إلى جانب استقلاله وسيادته؟ أم أن المسألة لا تزال بين «الأرض ـ الحاجز» المستخدمة وسيلة ضغط في الملفات الأخرى، والاقتناع بنظرية «دولة المسلمين المعتدلين»، حيث ربطة عنق الحريري وقراءته لمؤشر داو جونز، كافيتان لاختصار لبنان في واشنطن؟
ثانياً، الثابتة الإضافية والمستجدة في قراءة واشنطن للمنطقة، أي الصراع السنّي ـ الشيعي، هل تجعل من وجهة نظر جعجع هي الوازنة والراجحة في العاصمة الأميركية، أم وجهة نظر الرياض؟
ثالثاً، هل ثمة من يضمن، بعد سقوط ميشال عون، الذي يفترضه هذا المنطق «المستقبلي»، أن تظل حاجة ما لأي محاور مسيحي آخر، تماماً كما حصل قبل 18 عاماً؟
في 16 آذار 2005، كان البطريرك الماروني في البيت الأبيض، رفض الحديث عن مستقبل النظام اللبناني. قيل له لماذا لم تراهن على «إنجيلية» سيد البيت لفتح الموضوع؟ فأجاب: «وهل أدري في أي إنجيل يقرأ؟!».