جان عزيزيعطي ناصيف نصّار احتمالين للأصل اللغوي لكلمة «أمّة». الأول أن تكون المفردة مشتقّة من كلمة «أم» أي الوالدة. والثاني أن تكون متأتّية من فعل «أمَّ»، أي اتجه إلى، أو ذهب في اتجاه. بالمعنيين، وفي الاحتمالين، يبدو منطقياً أن تبلغ «الأمة» العربية، كما تسمى، ما بلغته في قمة دمشق.
أصلاً، يوحي الجذران اللغويان المحتملان المفهوم نفسه، بالتعريفين أو التحديدين المنطقيين الممكنين للكلمة. ففي حال صحة أصل «الأم»، يكون المقصود بمفهوم «أمة»، جماعة الناس الآتين من مصدر واحد وأصل واحد. وفي حال صحة فعل «أمَّ»، تكون «الأمة» جماعة الناس السائرين في اتجاه واحد وهدف واحد، ليبقى الاحتمال الثالث، والمثالي طبعاً، مزيجاً جامعاً للاحتمالين السابقين، بحيث تصير «الأمة» جماعة الناس المنحدرين من أصل واحد و«أم» واحدة، والمتجهين نحو غاية واحدة يؤمّونها موحّدين.
هكذا يصير أكثر وضوحاً انفراط عقد «مؤسسة» القمة العربية، وجامعة الدول العربية، كتعبيرين افتراضيين عن تلك «الأمة».
فبمعزل عن كل الكتابات التنظيرية للأمة العربية، من عفلق والأرسوزي إلى الحصري وسواهم، وبمعزل عن الترجمة الشعبوية الوحيدة لهذا المفهوم، في حقبة الناصرية، يظل ثابتاً أن هذه «الأمة» ارتبطت إلى حد كبير بمصدر، أو «أم» هي الإسلام، وبهدف هو إسرائيل، فضلاً عن سياق تاريخي لحضانة المفهوم وولادته ونشأته، هو عصر القوميات الغربية المنطلق في القرن التاسع عشر.
بمعنى أنه رغم كل التبريرات الحضارية والثقافية واللغوية والجغرافية المعطاة كعناصر تحديد وتعريف للأمة العربية، لا يمكن لأي مدقق في المسألة أن يفصل هذا المفهوم في أساسه عن الإسلام، جذراً واحداً موحّداً. ولقد عانى المسيحيون العروبيون كثيراً في مجانبة هذه الحقيقة، باستثناء من حاول تلوينها، مثل أنطون سعادة في مقولته «كلنا مسلمون...»، أو باستثناء من انتهى إلى التسليم بها، مثل ميشال عفلق الذي توفي شاهراً إسلامه.
ولمزيد من التدقيق، قد لا تكون مصادفة أن تولد «مؤسسة» جامعة الدول العربية وقمتها بعد نهاية الحرب الكونية الثانية. أي في الحقبة التي شهدت تفكير الولايات المتحدة الأميركية في كيفية تطبيق «الاحتواء المزدوج» لماركسية موسكو الحليفة ـ العدوّة. وهو التفكير الذي انتهى إلى تطويق المعسكر الأحمر، غرباً بالديموقراطية المسيحية في أوروبا، وشرقاً بالإسلام، العربي وغير العربي. وهو ما يزكّي كون هذا «الدين» أُمّاً أساسية لمؤسسة الجامعة وقمتها.
وقد لا تكون مصادفة أيضاً، أن تكون تلك الولادة متزامنة أيضاً مع نشوء فكرة دولة إسرائيل، بين بال 1898 وتل أبيب 1948. ما يزكّي أيضاً أن تكون قضية فلسطين المحور الجامع الذي أوجد لمؤسسة الجامعة والقمة والأمة، غايةً تؤمّها.
بعد نصف قرن على تلك الولادة، يبدو أن كل عوامل احتضانها قد زالت أو انتفت أو تآكلت. فعصر القوميات الغربية انتهى منذ زمن. ومفهوم الدولة ـ الأمة بات من بقايا الفكر الأركيولوجي. ولا يمكن في أي حال من الأحوال إعطاء نموذج أوروبا الناشئة اليوم، على أنه الدليل المعاكس. فبين بروكسل وستراسبورغ يبدو «اليورو» هو العنصر الأصلب في تكوين الإطار الأوروبي الجديد، الأمر الذي كان حاضراً في نشأته أيضاً، مع «مجموعة التعاون الأوروبية للحديد والصلب والفحم الحجري» سنة 1951. هكذا باتت مؤسسة الجامعة العربية لهذه الناحية كياناً خارج زمنه، أو «أناكرونياً».
أما الإسلام، كأمّ لتلك المؤسسة، فقد شهد بين طهران الخميني ونيويورك بن لادن تطورات كبيرة ضربت رحمه «الأمي» المفترض. إذ سرعان ما تكيّفت «جماعة المؤمنين» مع عصر الجماعات الحديث، لتتحوّل أكثر من «دار»، بين السنّة والشيعة، وبين جيواستراتيجيات مناطق الخليج والمشرق وأفريقيا الشمالية.
تبقى إسرائيل، اتجاه «الأمة» المفترضة والمفترض. وهو عامل تكويني لم يسلم من التفسّخ والتآكل نفسيهما. فبين رفض «الأمة» للقرار 181 المتضمن نظرية الدولتين سنة 1947، والمبادرة العربية سنة 2002، وتداعياتها المتسارعة في الأعوام الماضية، بدت «القضية المركزية» لمؤسسة الجامعة العربية أكثر تهافتاً نحو الاندثار.
ماذا يبقى لقمة دمشق؟ مجرد خطابات خشبية مكررة، على طريقة «اللوغوماكي». إلا إذا قررت العودة نصف قرن إلى الوراء وإعلان تحولها «مجموعة تعاون عربي للنفط والغاز وأسواق السندات واقتصاد المعرفة»، على سبيل المثال، تمهيداً للعودة إلى نقطة صفر صحيحة هذه المرة.