الفنار ــ رندلى جبوركأنك ذاهب إلى المجهول حين تعلن التوجه إلى «حي الزعيترية» في الفنار المتنية. حي يقطنه سكان غالبيتهم من الطائفة الشيعية، تحدّه الكنائس من كل الجهات: كنيسة مار تقلا في سد البوشرية، ثم مطرانية السريان وكنيسة «حق الإنجيل» الإنجيلية، وكنيسة مار شربل على مدخل الفنار العالي، أما واجهته فمعامل للدهان والخشب والأدوات الكيميائية، على رغم أن الحي سكني بامتياز إلا أنه صنّف منطقة صناعية من الدرجة الثالثة.
وتدخل «ذاك المجهول» بطرقات وعرة، «فالزفت عمره 100 سنة»، والبديل «بعض الباطون الذي نؤمنه من التبرعات الخاصة» لردم الحفر، لكن المطر سرعان ما يزيل الباطون وتعود «الجورة لعاداتها القديمة جداً».
البناء يخبر قصة الحرب والتهجير والعودة المنتظرة الترميم حتى الساعة، والبداية كانت في الخمسينيات حين قرر قسم كبير من آل زعيتر البعلبكيين الانتقال من الكْنَيسة وريحا وإيعات... في البقاع الشمالي للعيش في المدينة، بعدما ضاقت بهم الحياة، فحملوا «قيمهم العشائرية» وبدأوا بشراء الأراضي من مالكها «اليهودي». ويصرّ أحدهم على إحضار «سنده الأخضر»، أي سند الملك، ليؤكد أن الأرض «ليست محتلة كما يتهموننا» بل لدى كل صاحب أرض سند، والمشكلة الوحيدة في هذا الشأن هي أن الأراضي غير مفروزة.
قد تكون هذه هي المشكلة الوحيدة في مسألة ملكية الأراضي، لكن مشكلات كثيرة يعاني منها حي الـ1200 وحدة سكنية، وقد يبدو لوهلة أن «آخرين يعانون منها بسببه» لعل أبرزها وأكثرها استخداماً في «الحرتقات السياسية» هي عدم دفع المستحقات لبلدية الفنار التي يتبع لها «حي الزعيترية».
لماذا؟ جواب «الزعيتريين» يقلب الاتهام دفاعاًَ وتصبح «ورقة البلدية» نقطة قوة يحملها السكان ليظهروا وجوهاً جديدة من الظلم وسوء الإدارة في الإدارة اللبنانية.
فحرب الـ1975 هجّرت سكان الحي منه: منهم من لجأ إلى قريته البقاعية، ومنهم من «قتل على الهوية»، وبعد العودة في التسعينيات اشترطت البلدية على الأهالي دفع متراكمات الخمسة عشر عاماً التي هُجروا خلالها فرفض «الزعيتريون» ذلك وطالبوا بدفع مستحقات البلدية، ابتداءً من سنة العودة. وفود تألفت ونقاشات دارت بين «الناطقين باسم الحي» وبلدية الفنار، والنتيجة التي رفضها «الزعيتريون» كانت الإعفاء من خمس سنوات، أما النتيجة النهائية حتى اللحظة فهي أن لا عائلات الحي تدفع للبلدية، ولا البلدية تلتفت إلى شؤونهم، والإهمال بادٍ بوضوح على حي يضم إلى آل زعيتر عائلات الدلباني ونجار وسماحة وحمود.
ولكن ماذا عن الكهرباء وعن عدم دفع فواتيرها؟ يهب «علي» ليأخذنا في جولة على «ساعات الكهرباء» الموضوعة في كل البيوت تقريباً، «وإذا لم ندفع الفاتورة يُقطع التيار الكهربائي» الذي لا يراه سكان الحي إلا نادراً.
إنها السادسة مساءً: توقف عن الكلام لدقائق لسماع الأذان على قناة المنار، قبل الوصول إلى «بيت القصيد» و«النقزة» من الحي الذي يقتحمه الغرباء عنه بمثلث «الشفرة والموس والبونيا»، والخوف من سكانه له تفسير خاص، فزعيتر عائلة عشائرية كبيرة تملك «وهرة عشائرية ورخامة في صوت عال هكذا خلقه الله»، أتوا من الجرود البعلبكية، «والقصة ظاهر فقط» و«نحن قبضايات لكننا لسنا بزعران وما فيه أحلى من إنو الإنسان يكون قبضاي؟». لكن الزعيتريين يصرون على التأكيد أنهم من أكثر الناس تعايشاً واختلاطاً، والمشكلات التي تحصل لا علاقة لها لا بالطائفية ولا بالعشائرية ولا بالدين، بل هي «مشكلات صبيانية أو مشكلات نسوان» تحصل في كل مكان في لبنان، واتساع المشكل الذي «لا يحصل إلا نادراً» هو لأن «الكل ولاد عم وولاد خال»، وإذا أتى غريب وافتعل مشكلة محاولاً أذية «زعيتري»، تهب العائلة للدفاع عن ابنها، وكرر الزعيتريون مراراً: «كل الدياب طسّي والصيت لأبو زهرة، فمنطقتنا أرحم بمليون مرة من غيرها».