جان عزيز
«الوضع اللبناني في مأزق سيطول، وكل يوم من أيامه سيكون مزعجاً أكثر». هكذا تلخص أوساط وزارية المشهد العام.
المأزق أولاً تفصّله الأوساط نفسها بهذا التصلب في مواقف كل الأفرقاء المعنيين بالوضع، في الداخل والخارج، وتجزم بأن ما من فريق داخلي مستعد للتنازل مثلاً، في مسألة الحكومة. الموالاة حسمت قرارها بأنها تفضّل استمرار الوضع الراهن على إعطاء الثلث زائداً واحداً للمعارضة، والأخيرة تبدو حاسمة بالمقابل في القبول بما هي عليه الآن، إذا ما خيرت بينه وبين الدخول في حكومة لا تملك الأقلية المعطلة فيها. ما هو السبب في هذا التصلب الداخلي؟ إنها أزمة الثقة العميقة والمتبادلة، تؤكد الأوساط الوزارية، مضافاً إليها هذا التصلب المقابل في مواقف الأطراف الخارجية المتفاعلة مع كل من الطرفين المنخرطين في الصراع اللبناني.
لكن في ضوء هذا التوصيف، ماذا تعني المبادرة العربية إذاً؟ تجيب الأوساط بأن ثمة محاولة جدية وصادقة للحل قائمة لدى العرب المعنيين، غير أن الأهم والأخطر هو أن هذه المحاولة والنية القائمة خلفها، محدودتان بخط أحمر ضابط لحركة كل الدول العربية، وهو حرص الجميع على عدم التورط بأي شكل من الأشكال، في أي نوع من أنواع الصراع السني ـــــ الشيعي. ما من دولة عربية مُسهمة في المبادرة المطروحة، إلا وتملك حساسية مفرطة حيال أي فتنة مذهبية إسلامية. وما من نظام عربي عامل على هذا الخط، إلا وهو مهجوس بهشاشته الداخلية لهذه الناحية، ومدرك لعطبه، إذا ما بدا أو ظهر أو أوحى أو حتى أتُّهم، بأنه رجح كفة مذهبية على أخرى في لبنان، أو أسهم في غلبة طرف مسلم على آخر.
أكثر من ذلك، تضيف الأوساط الوزارية نفسها، فالدول العربية المقصودة لا تحرص على تجنيب أوضاعها الداخلية أي فتنة مذهبية وحسب، بل يذهب بعضها أيضاً أبعد، وقد يبلغ حد التقدير أو التفكير بأنه إذا ترك الصحوة الإيرانية الشيعية تتلهى في الوضع اللبناني، أو حتى تحقق بعض النقاط فيه، فهو سيكون مستفيداً من ذلك، على الأقل لجهة صدّ النهم السياسي لطهران، وإشباعه في بيروت بدل تحوله نحو عاصمة أخرى في المحيط.
هكذا تحول المأزق اللبناني إلى وضع شبه متكلِّس. وما زاده جموداً ما تسميه الأوساط الوزارية نفسها، التشرذم المسيحي، وخصوصاً ما تراه انقساماً مارونياً. لو ظل الموارنة والمسيحيون طرفاً موحداً، وبالتالي لو شكلوا لاعباً سياسياً أساسياً ثالثاً، لتبدلت الصورة برمتها، ففي وجود ثلاثة أطراف، كان التوازن القائم على الرعب من الخسارة، ممكناً ومتاحاً. لكن كل من الفريقين السني والشيعي أعاد حساباته في المعركة المحتدمة بينهما، واحتاط لأي انكسار له، إذا ما خسر الموقف المسيحي، أو مال هذا الأخير لغير مصلحته. أما في صورة الفريقين الوحيدين للصراع، كما هي الحال اليوم، فالمواجهة أصبحت صدامية أكثر، في غياب أي لاعب ثالث قادر على التحكيم أو الترجيح أو حفظ التوازن.
وتعترف الأوساط نفسها بأن البطريرك الماروني أسهم، من حيث لم يدرِ ولم يرد، في البقاء مرجعية متمايزة عن أطراف الصراع، وحين عجز بالتالي عن اتخاذ المواقف «الثالثة» المرجوة والمنشودة، ترك الأمور تنزلق إلى حيث كان يحذر ويرفض.
وتلاحظ الأوساط نفسها أن الحلقة الناقصة في هذا الدور المسيحي والماروني هي تماماً أن يقوموا بالدور المرصود لرئيس الجمهورية ضمن النظام اللبناني الراهن، وربما لذلك لا تبدو مصادفة صورة الشغور الرئاسي الحاصل.
أما لماذا يتجه هذا المأزق إلى وضع المزعج أكثر فأكثر، فتجيب الأوساط الوزارية، بأن ذلك عائد إلى أسباب عدة، أولها الثغر الأمنية التي بدأت تتكاثر وتتعاظم. فحتى وقت قليل سابق، بدا أن الوضع الأمني مشوب بثغرة واحدة، على خطورتها، ألا وهي الانكشاف على احتمال وقوع الجرائم الخارجية المصدر، التي ظلت في مجملها محصورة الاستهداف في أشخاص محددين. أما الآن، فإن الوضع الأمني بدأ يبدو منكشفاً على ثغر أخرى أخطر، وهي تلك المتمثلة باحتمال وقوع الحوادث الداخلية والإشكالات «الأهلية»، التي توسع نطاق الاستهداف من الأشخاص إلى المجتمع.
ويبقى ثالث عوامل الإزعاج المتنامي، هو الوضع الشامل لبنية الدولة، فلا إدارة سليمة في عملها وإنتاجيتها والأداء، ولا قدرة لدى المسؤولين على أي ضبط أو محاسبة، ولا مجال لمنع تكون الانطباع العام داخل الدولة، بأنّ «الشاطر» من «يدبر حاله» قبل الانهيار الكامل.
لماذا الوضع في مأزق متنامي الإزعاج؟ تختصر الأوساط الوزارية جوابها بالسؤال: هل يعقل أن تصير هذه الحكومة بالذات، أطول الحكومات اللبنانية عمراً؟!