جان عزيز
ما هي المكوّنات الفعلية للمأزق الراهن؟ وكيف العمل على مقاربة الاستحقاق الرئاسي بتعقيداته المتشعّبة، كما مقاربة المستقبل الأبعد مدى للبنان؟
أوساط وزارية بارزة، نائية بنفسها عن الاصطفاف الثنائي الحاصل بين الموالاة والمعارضة، تشير إلى أن المشكلة الأساسية في الوضع الراهن المأزوم، هي الفارق الشاسع بين حقيقة الأزمة من جهة، وبين الخطاب المعلن عنها من جهة ثانية.
وتشرح الأوساط المذكورة وجهة نظرها الخاصة، حيال المأزقين، الآني والعَرضي، والأبعد البنيوي.
في المأزق الآنيّ، تعتقد الأوساط الوزارية المقصودة، أن جوهر الصراع ليس في الاستحقاق الرئاسي، ولا في شخص الرئيس، ولا حتى في حكومة العهد العتيد الأولى. المشكلة، كما تجزم، عنوانها المحكمة الدولية الخاصة، لا غير. وتسارع الأوساط نفسها إلى التأكيد على أن تشخيص المعضلة في هذا العنوان، لا يعني قطعاً الأخذ برأي طرف، أو اتهام طرف آخر. ذلك أن حقيقة هذه المشكلة متأتّية من سلوك الطرفين المتقابلين المعنيين بالمحكمة، ومنبثقة من موقفيهما حيالها.
وتشرح هذه الأوساط، أن معادلة المأزق الراهن، بدأت قبل أكثر من عامين، وتبلورت وترسّخت طيلة الفترة الماضية، وفق العنوانين التاليين: ثمة في سوريا من اعتقد أنه يمكنه إسقاط المحكمة، وثمة في بيروت من اعتقد أنه يمكنه استخدام المحكمة لإسقاط من في سوريا. ورغم كل التطورات والوقائع المغايرة والداحضة، لم يقتنع أي من الطرفين بخطأ اعتقاده.
فالسوريون رفضوا الاعتراف بأن ثمة حتمية تنتصب أمامهم في الوقت الراهن، ألا وهي ضرورة قيام المحكمة. ولم يذهبوا أبعد في القراءة الواقعية المطلوبة، فيدركوا أن هذه الحتمية لا تعني بالنسبة إلى نظامهم حتمية حياته أو موته. بل هي خطوة محصورة في مكان وسطي بين المكانين، يختلف نسبياً في سلبيته أو إيجابيته، بحسب سلوكهم حيال تلك الخطوة. ولم يقتنع السوريون بأن آلية المحكمة تقتضي أعواماً، ستشهد تغييرات كثيرة، وأن «الوقت أفضل طبيب»، كما يقول الفرنسيون. فبدل أن يتعامل السوريون مع هذا الاستحقاق وفق هذه الذهنية الواقعية، فضّلوا الجمود عند مفاهيم النظام الحديدي، الذي يقفل هوامش المرونة فيه، ويرفض أي تغيير جزئي ضروري لتطوره واستمراره، تحت طائلة أن يؤدي تصلّبه إلى الانهيار الكامل تحت الضغط.
وفي المقابل، رفض الموالون في بيروت الإقرار بأن مقولة امتشاق سيف المحكمة لدك «نظام الدولة» في سوريا من داخله أو خارجه، مجرد وهم. ورفضوا التسليم بأن كل السياق الجيوبوليتيكي مناقض لحلمهم هذا، من الوضع العراقي، إلى المواقف المعلنة أو الكامنة على حدّي سوريا، بين تركيا وإسرائيل. وبالتالي بدل أن يقبِل موالو بيروت على ورقة المحكمة، لتثميرها حاجزاً سيادياً تنتهي مفاعيله العملية عند الحدود اللبنانية، لينكبّوا على إعادة بناء الدولة في الداخل، ظلوا يراهنون في الخارج والداخل، على تحويل تلك الورقة إلى ما ليست في حقيقتها، وإلى تحميلها ما لا يمكن طبيعتها أن تحمله.
وتعتقد الأوساط الوزارية نفسها، أن معضلة المحكمة الدولية، لا تزال حتى اللحظة العقبة الأساسية غير المعلنة، خلف أزمة الاستحقاق الرئاسي المتعثّر. بدليل استمرار العمل من الطرفين على خياريهما الطرفيين المتناقضين. فالرئيس فؤاد السنيورة، يدأب خلف المبادرات الرئاسية على جمع التمويل اللازم لإطلاقها، وهو خطا خطوة ملموسة في هذا الاتجاه أخيراً، فيما دمشق لا تزال تركّز في مواقفها من هذا الاستحقاق، على سبر النيات المبيّتة حيال تلك المحكمة وآفاقها وصيرورة عملها. أما في المأزق الأبعد زمنياً والأكثر بنيوية، فتعتقد الأوساط الوزارية نفسها، أن تركيز طرفي الصراع في الداخل، ليس كما يظهر في خطابيهما المعلنين، على الاستحقاق الرئاسي، بل على الاستحقاق النيابي بعد عام ونيّف. فالموالاة كما المعارضة تدرك أن السلطة الفعلية في النظام اللبناني، لن تنبثق من انتخابات الرئيس المقبل، ولا من توازنات الحكومة العتيدة، التي ستكون محكومة في ولايتها الزمنية القصيرة بالإعداد للانتخابات النيابية الآتية. لذلك فالطرفان مدركان أن السلطة الحقيقية في العهد الرئاسي المقبل، مرتبطة بقانون الانتخاب الجديد.
وترى الأوساط نفسها أن الموالاة والمعارضة ترتكبان خطأً أساسياً، في سعي كل منهما إلى إقرار قانون يضمن الأكثرية لاحقاً، وفق الاصطفاف السياسي الراهن. فيما المطلوب قانون انتخابي يعيد خلط القوى السياسية، ويرسم لها فرزاً جديداً على قاعدة أكثرية جديدة مكوّنة من كل الطوائف في شكل نسبي متناغم، في مقابل معارضة جديدة مكوّنة وفق القاعدة نفسها. وإلّا فالمأزق الأبعد مدى، والأكثر بنيوية وتهديداً للنظام اللبناني، سيستمر أيّاً كان الرئيس المقبل وحكومته الأولى والمجلس النيابي الآتي سنة 2009.
حل أزمة المحكمة الآن، على قاعدة الواقعية، والنظر إلى إعادة تكوين السلطة، على قاعدة الثنائية الحزبية المتعددة والمتنوعة داخل كل من طرفيها، هما الخطوتان الضروريتان لمقاربة المأزق اللبناني، وبغير ذلك، استدامة لكل المآزق والأزمات.