البوشرية ــ رندلى جبور
«شلاما لخ» (السلام عليك) من قلب نابض على هواه في الجسم المتني. مستديرة في سد البوشرية تبدو للوهلة الأولى هادئة، مزروعة بأنواع شتى من الأشجار، ومنازل يراوح عددها بين 300 و400، لا تخبر ظاهراً إلّا أن سكانها «ع قد حالهم»، لكن خلف الهدوء ومع اجتياز الظاهر، حكايا مجموعة من الناس «إذا أخبرناها نصبح أشبه بباب الحارة».
«فتشي ع حي له مستقبل»، ردّدها «الخال» قبل أن يضيف «لما تتدخلي بشي لا يعنيك رح تطلعي خسراني ونادراً ما تربحي»، وكسب الرهان كان في بعض المعلومات والأحاديث والخبريات.
إنه «حي المطرانية»، بل هو «حي المشاكل»، وهو «حي القوات»، وجوه كثيرة لعملة واحدة: ساحة الأشوريين تمثّل أحد أكبر التجمعات في لبنان لحوالى 2000 أشوري تابع للكنيسة الشرقية التي تشمل أيضاً الكلدان والسريان وغيرهم.
تطالعك «الصلبان الحمر المشطوبة» على الكثير من جدران الحي، وتلفتك ظاهرة «الموبيليتات والبيرة والأراغيل» ولكن أيضاًَ ظاهرة الجمعيات الكثيرة المنتشرة في هذه المساحة الجغرافية الضيقة، فمن التجمع الأشوري والرابطة الأشورية المرخّصين، إلى الجمعية الخيرية التي تتأسس حديثاً وتُرخّص قريباً، والتي تهدف إلى مساعدة المحتاجين «لأن الوضع المعيشي صعب جداً والطلاب يضطرون إلى ترك مدارسهم في المرحلة المتوسطة بسبب القدرة المادية المتدنية»، كل هذه الجمعيات تقوم بالنشاطات الثقافية والدينية والترفيهية والاجتماعية «لأبناء الكنيسة الشرقية».
قصة هذا الحي أو «باب الحارة اللبناني» بدأت في الستينات تقريباً، حين ترك عدد كبير من الأشوريين منطقة راس بيروت بسبب الإشكالات المسيحية ــــــ الإسلامية، وتوجّه إلى أرض في سد البوشرية قدمتها صاحبتها (مدام دوريفيل) مجاناً لبناء «كنيسة مار جرجس الشرقية»، هي اليوم «مطرانية الطائفة» واشتُريت بعض الأراضي المحيطة. ولكن قبل أن يأخذ «الحي» شكله الحالي، كانت الساحة ملعباً لكرة القدم، آخر مباراة فيه منذ أكثر من عشر سنوات بين الأشوريين والمصريين، أوقعت عدداً من القتلى والجرحى فتحوّل الملعب بطلب من المطران «مستديرة خضراء».
هي المستديرة تروي الكثير من الحكايا، و«الظفر يجرح أكثر من السكين أحياناً»: «أقل من وسط» هي الحالة المعيشية للأشوريين في الحي التابع لبلدية «الجديدة ـــــ البوشرية ـــــ السد»، والمشكلة الأهم تبقى في عدم حصول الكثير منهم على «تذاكر لبنانية»، على رغم «أننا قدّمنا تضحيات في الحرب مثلنا مثل اللبناني ولم نحصل على الجنسية»، كما يقول آشور، لذلك ترى التوجه إلى «الأعمال الحرة» كالنجارة والميكانيك والحدادة والمطاعم والمحال التجارية. فيما المستوى التعليمي الذي كان متدنّياً جداً يشهد ارتفاعاً في السنوات الأخيرة حيث يزداد عدد الطلاب المتوجهين إلى المدارس الخاصة منها والرسمية، وكثيرون بدأوا يحصلون على شهادات في مختلف الاختصاصات.
«أوصلي صوتنا والله مظلومين»... يردّد «أشور» بحرقة ليستفيض بسرد «قصة بوسطة الانتخابات» التي صارت مشهداً مألوفاً في الكثير من المناطق اللبنانية، «فالمسؤولون لا يلتفتون إلينا إلّا في فترة الانتخابات حيث تدفع الأموال وتنهال الوعود ويؤخذ الأشوريون مجموعات إلى الصناديق، لكن الوعود ما زالت وعوداً والحي هو إياه خالٍ من كل شيء»، وحتى زينة الميلاد التي كانت تضعها «البلدية» في الساحة في فترة الأعياد حُرمها الحي هذا العام من دون أي مبرر.
في المبدأ، أكثرية سكان هذا الحي يؤيدون القوات اللبنانية «لأننا حاربنا إلى جانبهم في الحرب تحت العنوان المسيحي»، وفي الواقع «الأكثرية من جماعة ميشال المر بسبب الخدمات الخاصة التي يقدّمها للأشوريين»، وحالياً بدأ البرتقالي يدخل على الخط «لأن الحمار صار يعرف الزعبرة من وين»، وكانت للرئيس فؤاد السنيورة في الأحاديث «حصة الأسد»، وحين انقطع التيار الكهربائي فجأةً، قال أحد الأشوريين بعفوية «شفتي كيف بتعرفي إنو فيه سنيورة بالبلد»، و«السنيورة فيه 99 علّة، والوضع الذي نعيش فيه ويعيش فيه كل لبنان هو بسببه وبسبب اللي وراه واللي قدّامه».
عاداتهم حافظوا عليها على رغم أنهم في لبنان منذ الحرب العالمية الأولى تقريباً، والأعياد الوطنية والدينية التي يمكن أن تشاهدها في «حي الأشوريين» قد لا تجدها إلا في بعض التجمعات الأشورية الأخرى مثل زحلة والأشرفية وبعبدا.
فالأشوريون صاموا منذ فترة وجيزة «صوم نيناوى»، أما «رش الماء» فيتم على الطرقات «وبعضنا على بعض» لغسل الأجساد والنفوس وبالتالي الخطايا، ومار جرجس ومار قرياقوس وغيرهما من القديسين لهم استذكار خاصّ، أمّا القمح، فهو أساس «المطبخ الأشوري» الذي يعتمد عليه «سكان الحي».
يتحدثون إليك «باللبناني» فيما يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأم، ولكن حبهم للبنان وطنهم الثاني بادٍ في أحاديثهم وفي تصرفاتهم، والخوف من ألا يبقى لهم شيء في هذه الأرض يظهر مثلاً في «تسمية ابنتنا أرزة ليكون لنا أرزة في هذا الوطن».
وإذا كنت من المارة الدائمين عبر ساحة الأشوريين المتنية، فلا يمكنك إلا أن تلحظ حصول المشاكل المتكررة، والسبب «كنزتك مش حلوي، وبعد ما مرقتلي الأرجيلة...» و«بتطقش قنينة البيرة» وتفعل مفعولها حتى «تنزل ملالات الجيش وتهدئ الوضع»..
«يللي بدك تعرفيه نسيناه من زمن، والحياة علمتنا أكثر من مدرسة».. ماذا نسي أو تناسى أشوريو البوشرية وماذا يتذكرون؟ كيف عاشوا وكيف يعيشون؟ لعل تقريراً لا يكفي والحاجة إلى «باب حارة» لبناني.
ولكن «بيسيما» (شكراً) على الحكايا التي أخبرونا إياها و«بوشون بشيما» (إلى اللقاء) في حلقة مقبلة.