strong> ديما شريف
•جولة في المواقف الوحدويّة واليسار القومي وما بقي من «شوارع العروبة»
كانت ثورة يوليو 1952 في نظر صانعيها مشروعاً عربياً، تحررياً، تقدّمياً وتنموياً. «وحدة، اشتراكية، حرية» معادلة متنافرة ألهبت جماهير العرب المستقلة حديثاً. شخصية عبد الناصر جعلته «الزعيم البطل» في نظر شعوب العرب، وامتد تأثيره وثورته إلى جميع البلدان العربية، ومنها لبنان

كانت مصر، ومنذ 1953، مرتبطة مع الولايات المتحدة بمشروع EARIS الذي يسعى لتنمية الريف المصري. ورغم ذلك، عُدّت مصر السد المنيع في وجه مشاريع التدخل الأميركية. وبدأت التنظيمات الناصرية تنشأ على خطى عبد الناصر لمحاربة ما كان يُحاك للمنطقة العربية آنذاك. ومثّل لبنان ميداناً خصباً لهذه الحركات مع تنامي النقمة الشعبية العربية على الرئيس كميل شمعون وسياساته الموالية للغرب.
حركة الناصريين المستقلين ــــ المرابطون هي أول التنظيمات الناصرية التي ظهرت في لبنان عام 1958. في ما بعد، ارتبطت بعلاقة وطيدة مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولا سيما حركة فتح، إذ كان مؤسّسها إبراهيم قليلات من المقرّبين من ياسر عرفات.
شاركت ميليشيا المرابطون في الحرب الأهلية، ولكنها فقدت نفوذها في بيروت حيث كانت تتركز قوتها. فقد قررت سوريا تصفية الحركات السنّية عبر حلفائها، وأعطت الضوء الأخضر لحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي اللذين انقضّا على الحركة في بيروت، مما أدى إلى تراجعها عن العمل العلني. سافر بعدها قليلات هرباً من توابع انكسار شوكة الحركة في المدينة، ولم يعد، رغم عودة «المرابطون» أو بعضهم إلى العمل السياسي.
ويتهم بعض الناصريين أخيراً من يسمونهم «المحسوبين على سعد الحريري» بمحاولة شق الحركة لاحتكار «القرار السياسي البيروتي» عبر استغلال علاقة الحركة ببعض الفئات الشعبية.
لكمال شاتيلا تجربة كبيرة مع التنظيمات الناصرية في لبنان، مع ترؤسه وتأسيسه لاتحاد قوى الشعب العامل عام 1965 والمؤتمر الشعبي اللبناني عام 1980. وجرت تصفية الاتحاد على يد «الحركة الوطنية» قبيل الدخول السوري إلى لبنان عام 1976.
ويقدم المؤتمر نفسه «إطاراً جامعاً لهيئات وشخصيات عاملة في الحقل الوطني، وناشطة في المجال الثقافي والاجتماعي». أما أهدافه، فتعزيز «الروابط الأخوية بين لبنان والبلدان العربية، والعمل على إلغاء الطائفية السياسية في لبنان».
ويقول شاتيلا إن الحركة القومية عموماً، لا الناصرية وحدها، تعاني اليوم مشكلة كبيرة. «هناك حاجة إلى مشروع متجدد للحركة العربية. نحن طرحنا أخيراً أفكاراً عدة، منها رفض الحزب الواحد، والتشديد على التكامل لتحقيق الوحدة».
ويرى شاتيلا أن أفكار الستينيات لم تعد صالحة، ما عدا الثوابت. «أما الأمور الاستراتيجية فهي قابلة للتجدد، وذلك يتماشى مع ما كان عبد الناصر يقوله عن ضرورة إعادة النظر في الميثاق كل عشر سنين».
وفي صيدا، يبرز التنظيم الشعبي الناصري. أسّسه معروف سعد عام 1973، وبعد وفاته اغتيالاً خلفه ابنه مصطفى في قيادة التنظيم. كان معروف من أبرز المناضلين النقابيين في الستينيات والسبعينيات، وسبّب اغتياله نقمة شعبية وعمالية كبيرة. أكمل مصطفى مسيرة والده، وانضم التنظيم معه إلى الحركة الوطنية، وشارك في الحرب، وفي مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. يرأس التنظيم حالياً أسامة سعد، النائب عن صيدا. ويمثّل التنظيم حزباً ناصرياً ذا توجّه يساري استطاع عبر العمل النقابي والعمالي منذ تأسيسه أن يتمتع بشعبية مستقرة لم تتغيّر كثيراً. ولا يمكن اعتباره «الأقوى» على الصعيد الناصري، لكونه الوحيد الموجود في البرلمان، بسبب خصوصية العلاقة التاريخية التي تجمع مدينة صيدا بآل سعد والتنظيم. يبعد التنظيم نفسه عن «الانعزال القطري» و«التيه الأممي» ليصنّف نفسه تنظيماً «قومياً منفتحاً».
في المقابل، يُعَدّ النائب السابق نجاح واكيم من أهم الوجوه الناصرية في لبنان. وقد استطاع أن يصل إلى البرلمان رغم عدم خبرته السياسية، ليصبح صوت الناصريين فيه. وبعد زهاء عقدين في المجلس النيابي، أسّس واكيم عام 2000 حركة الشعب التي تُعَدّ يساراً ناصرياً متجانساً مع ماضيه، وقد استطاع أن يخلق حالة شعبية حوله بسبب معارضته للسياسات الاقتصادية لحكومات الحريري. بعد الانتخابات النيابية الفرعية في آب 2007، ابتعد واكيم والحركة عن المعارضة إثر عدم دعم مرشح الحركة عن مقعد بيروت، ورأى أن هدف حركة الشعب أصبح إنشاء جبهة لكل القوى الوطنية العلمانية.
اليوم، أُفرغ معظم التشكيلات الناصرية من مؤيّديه بعد اتجاه القسم الأكبر من المحازبين إلى تيار المستقبل المستقطب الأكبر في الحقل السنّي. ورغم التنكيل السوري بالناصريين، يجد معظم من بقي منهم موقعه اليوم في المقلب المعارض، وعلى تقارب مع سوريا، «بسبب الظروف الإقليمية»، و«الهجمة الخارجية على المنطقة».
ضمرت الروح في المشروع القومي العربي لثورة يوليو، وكادت «شوارع العروبة» تخلو من الروّاد، بسبب تحديات عدة، أبرزها التطرف الديني والمذهبي ومشكلة الأقليات في العالم العربي. وتقف التنظيمات الناصرية في لبنان والعالم العربي اليوم على مفترق طرق بين الانضواء في مشروع قوى «الاعتدال» العربي والذوبان في قوى «الممانعة». وفي الحالتين، تظل عاجزة عن التأثير وسط التجاذبات الإقليمية.
«الوحدة والتعدد حقيقتان عربيتان لا بد من قبولهما على مستوى الوطن العربي كله»، بحسب محمد عابد الجابري، فهل تعيد التعددية في الفكر الناصري وأشكاله ووسائله الروح إلى المشروع القومي الوحدوي العربي الذي طال انتظاره؟



فروع لبنانية

وصلت التشكيلات الناصرية في أواخر الستينيات إلى أكثر من مئة في الأقطار العربية كان لمعظمها فروع في لبنان. قامت كل دولة بإنشاء تنظيماتها الناصرية الخاصة، فكان للعراق ثلاثة ولليبيا أربعة، فيما كان هناك ثلاثة تنظيمات شيوعية ناصرية، وسبعة أنشأها عرفات.
ومع زوال تأثير الدولة أو الجهة الواقفة وراء التنظيم، يختفي التنظيم من الوجود أو يضمحل تأثيره، فالارتباط بالأنظمة والدول وصراعاتها أنهك الحركات. وكان يكفي في فترة السبعينيات رفع صورة لعبد الناصر لدى أي تنظيم ليُلْحَق تلقائياً بالناصرية. كما كان لكل تنظيم اجتهاداته في ما يتعلق بالقضايا الأساسية، الإقليمية والعربية. ومثّل ضرب «المرابطون» في الأعوام الممتدة من 1984 إلى عام 1986 نهاية لمعظم التنظيمات الناصرية في لبنان.