نقولا ناصيف
لأن باريس تكتفي في الوقت الحاضر بتأييد مبادرة الجامعة العربية للحل اللبناني، وتراقب عن كثب مسار الأزمة وتطوراتها من غير أن تبادر إلى طرح أفكار إضافية ولا الخوض في مبادرة جديدة، فإن لا جهد دبلوماسياً استثنائياً تبذله حيال لبنان في المدى المنظور. ترجمة لذلك، يزور بيروت، مطلع الأسبوع المقبل، أربعة أعضاء من مجلس الشيوخ الفرنسي يمثلون لجنة الصداقة الفرنسية ــــ اللبنانية. وليس للزيارة، التي تستمر ثلاثة أيام، سوى هدف واحد هو تأكيد الاهتمام الفرنسي بلبنان، ودعمه، والتضامن معه في أزمته، واستطلاع الوضع الحالي. وسيلتقي الشيوخ الأربعة المسؤولين والشخصيات اللبنانية.
ولأن الاتصالات الفرنسية ـــــ السورية مقطوعة في الوقت الحاضر ما خلا الحوار المحدود، والمتقطع، الذي يجريه السفير في دمشق ميشال دوكلو مع المسؤولين السوريين في إطار استمرار العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، تبدو هذه النافذة هي الممر الوحيد للمعلومات التي تحصل عليها الدبلوماسية الفرنسية عن الموقف السوري كما تعبّر عنه دمشق. أضف الإشارات والإيحاءات التي تلمسها السفارة في بيروت من سلسلة طويلة من مواقف حلفاء سوريا في لبنان التي تعبّر بدورها عن آراء هؤلاء، المطابقة إلى حد بعيد لمواقف السلطات الرسمية السورية. إذ تتمسّك باريس بـالحوار المقطوع ، وتعتقد بأن على دمشق أن تدرك ــــ لا أن تتجاهل وتتصرّف بلامبالاة ــــ أن سياسة كهذه تلحق الضرر الكبير بها.
يعكس هذه المعطيات زوار العاصمة الفرنسية العائدون من لقاءات مع شخصيات على صلة مباشرة بالخارجية الفرنسية، وفقاً للمشهد الآتي:
1 ــــ بحسب المعلومات المتوافرة من السفارة في دمشق عن نتائج زيارته العاصمة السورية في 24 كانون الثاني الفائت ولقائه الرئيس بشار الأسد والمسؤولين السوريين، لم يُبدِ وزير الخارجية الهولندي مكسيم فيرهاغن ارتياحاً إلى ما سمعه منهم في أكثر من موضوع، وما سمعه أكد له تصلّب دمشق حيال الجهود التي تبذل لديها لإبداء مرونة والتعاون من أجل حل الأزمة اللبنانية. ولم تكتم المعلومات عن هذه اللقاءات تشنّجاً واضحاً ساد بعض محطاتها، وخصوصاً عندما انتقد المسؤولون السوريون موافقة هولندا على استضافة مقرّ المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري على أراضيها.
وخلافاً للدبلوماسية الفرنسية، فإن نظيرتها الهولندية المطبوعة بالهدوء واللين والقليلة الاهتمام بالشأنين السوري واللبناني، فوجئت بردّ الفعل السوري، إلى حدّ حمل فيرهاغن على توجيه ملاحظات مباشرة، لم تخلُ من القسوة، إلى محاوريه السوريين. إذ لاحظ أنهم ليسوا في وارد تقديم أي تنازل أو خطوات ملموسة حيال تسوية الأزمة اللبنانية، ولا التأثر باستعدادات الاتحاد الأوروبي لبدء مرحلة جديدة من الحوار والتعاون مع سوريا، ولا توجيه إشارة إيجابية تساعد الاتحاد الأوروبي على فتح الأبواب معهم، الأمر الذي يحمل الدبلوماسية الفرنسية بدورها على التأكد من جملة انطباعات لديها أن دمشق لا تزال تصر على إبقاء منافذ الحل في لبنان موصدة، وخصوصاً أن باريس لم تلمس هي الأخرى، منذ الموقف الأخير للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في شرم الشيخ، يوم 30 كانون الأول الفائت، وقراره وقف الاتصالات بدمشق، أي إشارة إيجابية تريد دمشق توجيهها إليها.
2 ــــ تعتقد الدبلوماسية الفرنسية بأن دمشق لا تؤيد انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وتتعمّد إثارة الشكوك بشأن ترشيحه منذ أعلنت قوى 14 آذار هذا الترشيح نهاية تشرين الثاني الماضي. واستناداً إلى المعطيات المتوافرة لباريس، فإن سوريا كانت تنتظر من سليمان ضمانات قاطعة بشأن الدور الذي سيضطلع به مستقبلاً إذا انتخب رئيساً. بل تتحدّث المعلومات المتوافرة لدى الدبلوماسية الفرنسية من سفارتها في دمشق عن أن القيادة السورية كانت تتوقع من قائد الجيش زيارتها للبحث معها في هذا الموضوع كجزء من الضمانات التي تجعلها ترتاح إلى انتخابه، وإلى سعيه لتطبيع العلاقات اللبنانية ــــ السورية. قاد ذلك باريس إلى أن تستهجن موقفاً كهذا، إذ رأته غير واقعي، بل لا يمكن أحداً تصديقه! في المقابل، تدرج دمشق الزيارة في سياق ربط تأييدها لانتخاب سليمان بضمانات «حتمية وحقيقية» تطمئنها إلى موقع حلفائها في المعادلة الداخلية، وإلى أن الرئيس الجديد لن ينحاز إلى فريق الغالبية الذي رشحه رسمياً للمنصب، ويقود حملة انتخابه عربياً ودولياً، وتطمئنها كذلك ــــ وخصوصاً ــــ إلى سياسته الخارجية، وأنها لن تتحوّل مجدداً، شأن ما هو حاصل منذ أكثر من سنة من خلال حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، تهديداً مباشراً لسوريا من لبنان.
3 ــــ لا تبدو باريس واثقة من أن سوريا، خلافاً لمواقفها المعلنة، ترى أن الوقت قد حان لانتخاب رئيس جديد للبنان، ولا لإيصال رئيس قوي يحظى بإجماع اللبنانيين والتفافهم حوله، أو في أبسط الأحوال أن دمشق قرّرت أن تكتفي بهذا المقدار من التدخّل في الشأن اللبناني وعرقلة الاستحقاقات المتتالية، وأخصّها وضع حدّ لشغور رئاسة الجمهورية. وهذا يدفعها بالتأكيد، في تقدير الدبلوماسية الفرنسية، إلى إضعاف ترشيح سليمان لتجريده من بريق الإجماع عليه.
4 ــــ رغم الاهتمام الذي تبديه باريس بما يجري داخل سوريا من حملات اعتقال وضغوط على المعارضين وتباطؤ في إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية جوهرية، ورغم التقارير التي تردها من بعثتها هناك عن أن النظام هو «الآن في تشنّج وغير متسامح»، تلمس كذلك إصرار دمشق على التصرّف بكثير من التطلّب حيال الوضع اللبناني، وتحديداً عبر حلفائها الذين يهدرون الوقت لتمديد الفراغ الرئاسي، ويراكمون الشروط لعرقلة التوصل إلى تسوية داخلية كلما بدا أن هذه اقتربت من نهايتها، الأمر الذي يحمل الدبلوماسية الفرنسية على التيقن من أن الموقف السوري من الرئاسة اللبنانية يريد أن يذهب إلى أبعد مما كان قد صارح به مسؤولون سوريون نظراءهم الفرنسيين في مرحلة الحوار الثنائي في الأشهر الأخيرة من السنة المنصرمة، وهو أن لا يُنتخب رئيس لبناني معاد لسوريا. بل تعتقد باريس بأن ما تضمره دمشق هو أكثر من ذلك بكثير.