الكورة ـ فريد بو فرنسيس
من يتجول في بساتين الزيتون في الكورة، يدهشه التنوع الحيوي الموجود فيها. فالنوع الأكثر شيوعاً والمعروف بالزيتون البلدي، هو في الحقيقة أكثر من نوع واحد، وذلك يعود إلى الاختلاف الكبير في حجم الثمرة وشكلها ولونها والتحول التدريجي باللون، من الأخضر إلى الأسود، وعدم التحول، بحيث تحافظ الثمرة على اللون الأخضر الأصلي إلى استكمال نضجها. وكذلك الاختلاف الظاهر في حجم النواة وشكلها، واختلاف واضح في شكل الورقة بين الأشجار المعروفة جميعها بالنوع البلدي. إن هذه التنوعات
«المورفولوجية» بادية للعيان، والمزارعين يعرفون بعضها بكل تأكيد. فإذا طلبت ثماراً كبيرة من زيتون المائدة من النوع البلدي، تجد بين المزارعين من ينصحك بالتحول من شجرة الى شجرة أخرى. وإذا أردت «تطعيم» شجرة من النوع العيروني الصغير الثمرة والقليل الزيت، بالنوع البلدي، للحصول على شجرة كبيرة الثمرة، وغنية بالزيت، تجد من ينصحك ويرشدك إلى شجرة أو أكثر لهذا الغرض، من بين مئات الأشجار المنتشرة في البساتين.
فالكورانيون اعتمدوا على شجرة الزيتون إلى حدّ كبير لكسب معيشتهم وخاصة خلال النصف الأول من القرن الماضي وما قبله. وخلال تلك الفترة من تاريخهم، وضع ملاكو الزيتون في الكورة استراتيجية للتعامل مع الشجرة المباركة تعرف باستراتيجية «التناوب» نفذوها بدقة متناهية ونادراً ما حادوا عنها، محافظين هكذا على استمراريتهم ورخائهم ومستقبل أولادهم. كانوا بموجب هذه الاستراتيجية يقسمون إنتاجهم من الزيت وزيتون المائدة مناصفة، النصف الأول للاستهلاك ومقابلة تكاليف الحياة في السنة التي هم فيها، والنصف الثاني احتياطي للسنة المقبلة إذا كانت سنة محلففي أواخر شهر أيار من كل سنة كانوا يتفقدون بساتينهم لمعرفة ما إذا كان موسم السنة جيداً أو لا. وبكلام آخر، هل عقدت الأزهار وظهرت الثمار؟ فإذا تبيّن لهم أن الثمار عقدت يظهر الفرح على وجوههم ويهنئون بعضهم بعضاً، ولكن الى حين. ذلك أن الإنتاج الجديد لا يزال عرضة لأضرار عناصر الطبيعة، وخاصة هبوب رياح الخماسين الساخنة والمعروفة محلياً باسم «الشلهوبة». ويعودون إلى تفقد أرزاقهم خلال شهري حزيران وتموز، وفي هذا التاريخ تكتمل فرحتهم بالإنتاج القادم. وحسب الاستراتيجية السالفة الذكر يتصرفون بالاحتياط كله ببيعه في الأسواق لأن الموسم القادم على الأبواب. في هذا الوقت تشترى الثياب الجديدة وتقام أعراس المخطوبين ويقدم الشباب العازب على الخطبة بدون تردد. إنها الحياة تستمر في إطار زراعة الزيتون التي كانت في سالف الأيام نظاماً للمعيشة وطرازاً للحياة في الكورة.
وخلال النصف الثاني من القرن الماضي، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، الى الوقت الحاضر تنوعت مداخيل الكورانيين ولم تعد زراعة الزيتون المصدر الأساسي للحياة رغم أنها حافظت على دورها كمورد هام ووحيد بالنسبة للبعض. في هذه الفترة، بدأت ظواهر الإهمال على البساتين، وبدأت الهوة بين الإنسان الكوراني وأرضه الخيرة المعطاء تتسع. فالجيل الجديد يبتعد عن الأرض ولا سبيل لعكس الاتجاه هذا في الوقت الحاضر على الأقل وذلك بالرغم من جهود كبيرة تبذل على الصعيدين الرسمي والخاص.
ويقول رئيس مجلس إنماء الكورة المهندس جورج حنا جحى إنه «إضافة إلى تنوع المداخيل لدى أبناء الكورة، هناك ارتفاع في كلفة اليد العاملة غير المتوافرة محلياً، وارتفاع في أثمان المدخلات الزراعية وأسباب الإنتاج الأخرى، وإغراق السوق بزيوت نباتية أرخص سعراً من زيت الزيتون، ناهيك عن صعوبة تصريف الزيت. وربما كان «التناوب» في حمل الثمار، من الأسباب الرئيسة وراء الإهمال الحاصل، علماً بأن حل هذه المشكلة والحصول على موسم معتدل كل عام من شأنه أن يؤدي الى وضع تنافسي وتفاضلي جيد لزيت الكورة في الأسواق الوطنية والدولية. وعن التناوب أو المعاومة يقول جحى «إنهما من الصعوبات التي تواجه مزارعي الزيتون في الكورة ولبنان بشكل عام. ومعنى ذلك أن بساتين الزيتون تحمل الثمار بكثرة في سنة، القليل من الثمار في السنة التي تليها، من هنا تعبير «التناوب في حمل الثمار» أو «المعاومة». وإن الرأي الشائع بين المزارعين والملاكين والعاملين في هذا القطاع أن الزيتون يحمل الثمار بكميات كبيرة مرة كل سنتين. وهكذا «سنة حمل وغلة وفيرة» و«سنة محل بدون غلة تذكر». ولكن هذه القاعدة لا تنطبق مئة في المئة، ففي سنة المحل يمكن أن يحصل المزارع على نصف موسم أو ربع موسم، وأحياناً القليل من الثمار. وقد يحدث أن البساتين تعطي غلة وفيرة في سنتين متتاليتين، وقد يحدث عكس ذلك تماماً كأن تمحل الأشجار سنتين متتاليتين علماً بأن كلا الأمرين نادر حصوله».
ويشرح المهندس جحى المواضيع المطلوب بحثها علمياً وهي تحديد الأنواع البلدية وإعطاؤها أسماء أخرى مستوحاة من صفاتها المميزة أو من اسم المحلة التي تنمو فيها أو قد تحمل اسم صاحب البستان حيث توجد، إضافة الى موعد ظهور الأزهار للتوصل الى نوع أو أنواع تزهر مبكرة وأخرى تزهر متأخرة وأنواع غيرها تزهر بين المرحلتين المبكرة والمتأخرة. ومراقبة هبوب الرياح الخمسينية وتسجيل درجة حرارتها يومياً أثناء الليل والنهار وتحديد مواعيد الهبوب وفترة استمرار هذه الرياح بالأيام والساعات. لأنه من المعروف محلياً أن هذه الرياح لا تدوم خمسين يوماً كما يستدل من اسمها، بل تدوم فترة أيام محدودة تستمر من ثلاثة إلى خمسة أيام. ونادراً ما تستمر لمدة سبعة أيام، وهي تصل الى الكورة في أواخر نيسان إلى أوائل أيار من كل سنة».
ويختم جحى: «اذا تم التوصل الى ذلك وأصبح لدينا معرفة بهذه الأنواع المحلية يمكن للأبحاث أن تكثر هذه الأنواع بشتى الطرق وتوزيعها على المزارعين بحيث تغرس الأنواع الثلاثة المنكرة والمتأخرة وما بينهما بالتساوي في كل بستان، وهذا ضمان أكيد على أن رياح الخمسين لن تصيب الأنواع الثلاثة في وقت واحد. وهكذا يسلم نوع واحد على الأقل أي ثلث البستان، وبهذه الطريقة يحصل المزارع على ثلث موسم في سنة المحل كحد أدنى».