نقولا ناصيف
غداة وصولها إلى لبنان الثلثاء الفائت (3 شباط) لتسلّم مهماتها، باشرت القائمة بأعمال السفارة الأميركية ميشال سيسون جولاتها على المسؤولين اللبنانيين بغية تأكيد استمرار الدعم الأميركي للبنان، وضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية ووقف التدخل الخارجي في شؤون هذا البلد، وأن حكومتها تشجّع قيام المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أرادت أن تقول أيضاً، بعد ثلاثة أيام من مغادرة سلفها السفير جيفري فيلتمان بيروت (31 كانون الثاني) أن لا فراغ في السفارة لمواكبة الوضع اللبناني وتطوراته في ظل استمرار شغور الرئاسة، ولا تغيير في الموقف.
يتقاطع ما أعلنته سيسون مع معلومات دبلوماسية رفيعة المستوى مصدرها واشنطن وصلت إلى مسؤولين لبنانيين، رسمت بدورها الملامح إياها للموقف الأميركي الراهن من لبنان، ومن سوريا استطراداً. بعضها اتصل بما أفضت إليه جولة الرئيس الأميركي جورج بوش على المنطقة في النصف الأول من الشهر الفائت التي ستليها جولة ثانية في الذكرى الـ60 لتأسيس دولة إسرائيل تشمل هذه المرة الأردن الذي لم يزره بوش في الجولة الأخيرة، ومصر مجدداً، وبعضها الآخر بمراجعة التطورات الأخيرة في لبنان.
واستناداً إلى المعلومات الدبلوماسية، تبني واشنطن تركيز اهتمامها بلبنان وسوريا على المعطيات الآتية:
1 ــــــ لم يصدر (حتى اليوم على الأقل) موقف علني من الإدارة الأميركية يدعم مبادرة الجامعة العربية للحل اللبناني، لا في الصيغة التي خلص إليها اجتماع 6 كانون الثاني، ولا في الصيغة المعدلة الصادرة عن اجتماع 27 كانون الثاني. وخلافاً لباريس التي لا تتردّد يومياً تقريباً في تأكيد دعمها المبادرة العربية لوضع حدّ للأزمة اللبنانية، تجاهلتها واشنطن للأسباب نفسها التي جعلتها تتجاهل المبادرة الفرنسية قبلها على امتداد شهري أيلول وتشرين الثاني، وهي عدم اقتناعها بجدوى التحرّكين الفرنسي والعربي حيال سوريا والخوض معها في حوار لتسهيل انتخاب رئيس جديد للبنان. فهذا الحوار ترفضه واشنطن.
ويبدو أن إغفال الإدارة الأميركية إصدار بيان تأييد للجهود العربية استرعى انتباه مراجع رسمية لبنانية فاتحت دبلوماسيين أميركيين في مغزى هذا التجاهل، فكان الجواب أن عليهم ألا يتوقعوا موقفاً يدعم المبادرة.
2 ـــــ استكمالاً لهذا التجاهل، تلاحظ الإدارة الأميركية أن كلاً من المبادرتين الفرنسية والعربية تسعى إلى إعطاء حلفاء سوريا مكاسب جديدة في السلطة، وخصوصاً في الحكومة الجديدة التي يفترض أن تلي انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. وبمقدار تأييد واشنطن انتخاب الأخير رئيساً ما دام مرشح توافق وإجماع داخلي، تنتظر من قوى الموالاة عدم المجازفة بتنازلات سياسية خطيرة تتعلق بالمرحلة المقبلة لحكم البلاد في ظل قوة الغالبية النيابية. بل تلاحظ واشنطن أن ما هو متداول في الوقت الحاضر عن احتمال توزّع السلطة الجديدة في لبنان بين قوى 14 آذار وحلفاء سوريا ــــــ تبعاً لما تحمله إلى واشنطن تقارير السفارة في بيروت ــــــ هو أكثر بكثير مما يقتضي أن يكون وأن تقبل به الغالبية. وفي ذلك إشارة صريحة إلى رفض الاقتراحات التي تميّز بين الموالاة والمعارضة في مقاعد الحكومة الجديدة بنسب ضئيلة ومحدودة وإن مع ترجيح كفة النصاب لقوى الموالاة.
يتطابق هذا الاعتبار مع ما تشير إليه المعلومات الدبلوماسية عن فحوى محادثات الرئيس الأميركي في السعودية، إذ تلاقت وجهتا نظر البلدين حيال لبنان وسوريا وتباعدتا حيال العراق وإيران وفلسطين. وتركّز تلاقيهما على أهداف ثلاثة: أولها دعم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وحلفائها في قوى 14 آذار التي يقودها النائب سعد الحريري، وثانيها إلحاح واشنطن والرياض على تحالف 14 آذار «برفض إعطاء أي سلطة إضافية لمنافسيهم أصدقاء النظام السوري» على نحو ما ذكرته المعلومات الدبلوماسية الواردة من واشنطن، وثالثها أن المحكمة الدولية في اغتيال الحريري الأب التي ستنطلق من لاهاي قريباً ستزيد، في اعتقاد المسؤولين السعوديين، من «البلبلة والاضطراب والمخاوف داخل النظام السوري».
3 ـــــ تيقّن واشنطن في الأيام الأخيرة من أن العاهل السعودي الملك عبدالله لن يشارك في القمة العربية في دمشق، المقررة نهاية آذار المقبل. وتستمد الإشارة إلى قمة دمشق ومقاطعة الرياض لها أهميتها من أكثر من دلالة: أنها تنبئ أولاً باستمرار استعار الخلاف السعودي ــــــ السوري وبقاء أبواب الحوار موصدة بين البلدين، الأمر الذي يعزّز الحجة الأميركية الكثيرة التكرار على مسامع الزعماء العرب بضرورة إبقاء العزلة العربية حول نظام الرئيس بشار الأسد والتضييق عليه. وتعني ثانياً حرمان الأخير نجاح أول قمة عربية تعقد في سوريا (منذ أولى القمم العربية عام 1946) وإن أصرّ على عقدها على أراضيه. وتعبّر ثالثاً عن تجريد دمشق من الغطاء الذي تحتاج إليه لفك عزلتها العربية، ليس على المستوى الدبلوماسي والدولي فحسب، بل أيضاً تجريدها من الحصول على دعم أكثر ما يعوز نظامها في الوقت الحاضر، وهو الشرعية السنّية العربية بزعامة المملكة التي كانت تمثّل ــــــ ولا تزال حتى إشعار آخر ــــــ مصدر حماية لنظام الرئيس السوري من الضغوط الدولية التي تستهدف استقراره وبقاءه. ومع أن العرش السعودي هو الذي يقود شرعية الزعامة السنّية العربية حاضراً، في الظاهر على الأقل، فإن هذه تستمد روافدها من دول عربية سنّية أخرى نافذة كمصر والأردن ودول الخليج. ويبدو أن الرياض، في تقويم المعلومات الدبلوماسية نفسها، باتت أكثر تفهّماً لوجهة النظر الأميركية بضرورة إطباق العزلة العربية على دمشق، ونزع الحماية السنّية العربية عنها على نحو لم يسبق أن رافق حكم والده الرئيس حافظ الأسد.
على امتداد 30 عاماً من حكمه سوريا، لم ينجح الأسد الأب في عقد قمة عربية في سوريا، حتى في السنين العشر التي أخرجت فيها مصر من الجامعة العربية (1979 ـــــ 1989) ونقل المقرّ الرئيسي من القاهرة إلى تونس. وعلى امتداد السنين الطويلة من حكم الرئيس الراحل، وعلى وفرة الخلافات السياسية التي نشبت بينه وبين الدولتين العربيتين الكبريين مصر والسعودية في موضوعات بالغة السخونة والتعقيد كان للأسد تأثير فاعل فيها كلبنان وإيران والصراع العربي ــــــ الإسرائيلي والفلسطينيين والعلاقة مع الغرب، لم يشعر لحظة واحدة بأن أياً من دول الزعامة السنّية العربية قد وقفت على طرف نقيض منه إلى حدّ جعله يستشعر، إيحاءً على الأقل، بأن أياً من هاتين الدولتين والدول العربية الأخرى الدائرة في فلكهما تريد تهديد استقرار نظامه في سوريا.