بنت جبيل ـــ داني الأمين
لا تخفي صورة الكنيسة والمسجد لأربع قرى جنوبية في قضاء بنت جبيل الانخفاض الكبير في أعداد المسيحيين بسبب هجرتهم منها والتي غالباً ما تكون «نهائية»

تبنين، برعشيت، يارون وصفد البطيخ. أربع قرى في قضاء بنت جبيل تشهد تعايشاً إسلامياً ــ مسيحياً، لكنها تكشف تغييراً كبيراً في الواقع الديموغرافي بسبب الهجرة «النهائية» الواسعة للمسيحيين منها، كان الوضع الاقتصادي الدافع الأساسي لها.
تحتضن يارون الحدودية في أحيائها لبنانيين من أبناء الطائفتين الشيعية والكاثوليكية. ويلفت الانتباه اتساع الأحياء الشيعية المبنية بالحجر الصخري والقرميد الأحمر، في حين تبدو بيوت الحيّ المسيحي متواضعة دالّة إلى تواضع الحالة المادية لأصحابها.
يشرح مختار يارون علي غشام (80 عاماً) واقع المسيحيين في البلدة: «المسيحيون يعيشون هنا منذ القدم وهم يشكلون نحو ثلث سكان البلدة الذين يبلغ عددهم نحو 5000 نسمة». يضيف إن «ثراء المسلمين الشيعة في البلدة عائد إلى هجرتهم إلى أميركا وأوستراليا، في حين نزح المسيحيون بأغلبهم إلى بيروت، ومن هاجر منهم لم يعد إلى البلدة. لذلك تجد أن أكثر المقيمين هنا هم من أبناء الطائفة الشيعية ويوجد نحو 2000 مقيم شيعي مقابل نحو 200 مقيم مسيحي»... ويلفت إلى أن «الكثير من المسيحيين باعوا أرضهم بسبب الحاجة لكونهم يعتمدون على العمل في لبنان».
رغم ذلك، يؤكد غشام أن بلدة يارون «تسجّل نموذجاً خاصاً من التعايش الإسلامي ــ المسيحي، فهذه البلدة لم تشهد أي خلاف طائفي منذ نشأتها، رغم كل الحروب التي عصفت بلبنان».
في بلدة برعشيت الأمر مشابه. ورغم مشهد الكنيسة الكبيرة التي تجاور المسجد القديم، فإنه يصعب البحث عن أهالي البلدة من المسيحيين الكاثوليك. فالبلدة أصبحت كبيرة جداً، والبناء الجديد يطال كل مكان.
أبو جورج يونس (85 عاماً) يجلس داخل منزله المتواضع مع ابنتيه خلف مدفأة المازوت، وخلفه على الحائط صورة للسيد حسن نصر الله الذي يعشقه «هو وأبناء حزبه حرّروا جنوبنا الغالي». يضيف: «نحن هنا منذ أكثر من مئتي عام، نعيش دون أي حسابات طائفية، ولم نشعر يوماً أننا أقلية بين أكثرية شيعية».
يحدّث بالسياسة ويتابعها وينتقد أداء الدولة: «علّمت أولادي التسعة من ثمار أرضي الواسعة هنا». هذا في السابق، أما اليوم فيجد الرجل الذي يملك 100 دونم من الأراضي نفسه عاجزاً عن إعالة عائلته «ورجال السياسة لا يكترثون لحالنا».
وعن وضع المسيحيين في البلدة يروي: «كان عددنا نحن المسيحيين المقيمين في هذه البلدة أكثر من 700 نسمة، فيما لا يتجاوز هذا العدد اليوم الـ70 نسمة، فقد هاجر أغلبهم إلى بلاد الله الواسعة، ليس هرباً من الحرب، بل هرباً من الجوع وقلة العمل». ويذكر أن الهجرة تكثّفت ابتداءً من عام 1975 «بعد أن كانت الأراضي الزراعية مورد عيشنا الأساسي».
المسلمون يهاجرون أيضاً، «لكنهم يحبون أرضهم كثيراً فيعودون إليها ليبنوا بيوتهم، بينما المسيحيون إن هاجروا فلا يعودون. لي الكثير من الأقارب تركوا البلدة إلى المهجر دون أن يفكروا بالعودة على الإطلاق، ومن بينهم شقيقان لي توفيا في أفريقيا ودفنا هناك، بينما الشيعة يعودون ولو كانوا أمواتاً». أما من يعود من المسيحيين إلى البلدة فهم النازحون الذين يزورونها في المناسبات «وخاصة في الأحزان، لأنه لا أفراح في هذه المنطقة» كما يقول أبو جورج الذي يشكو من وضع الزراعة المتردّي. هو حاول مع ابنه إيجاد زراعة بديلة تساعدهما على الاستمرار، فزرعا الشمام البرعشيتي الشهير بعد أن اكتشفا أن أرض بلدتهم تصلح لهذا النوع من الزراعة «إلا أن هذه الزراعة سرعان ما أصيبت بالمرض، ولم يتم العثور على أي دواء لإنقاذها، ولا أحد يهتم من المسؤولين».
أغلب المنازل المسيحية في برعشيت قديمة جداً. يصل عددها إلى نحو 40 منزلاً، أغلبها غير صالح للسكن. كما هُدم 25 منها في حرب تموز الأخيرة، والعمل جار اليوم على إعادة بنائها.
الصورة نفسها في تبنين وصفد البطيخ، مع اختلاف واضح في تبنين، التي ما زال عدد المسيحيين مرتفعاً فيها، وهناك اهتمام واسع من المجلس البلدي بالحارة المسيحية التي لا تختلف كثيراً عن الحارات الشيعية، وتعلو الكنيسة الجميلة تلة البلدة وتجاور معسكر قوات اليونيفيل القديم الجديد الذي أمّن العمل للعديد من أبناء تبنين.
ويقول ابن بلدة صفد البطيخ جورج حداد «كان عدد المسيحيين نحو 2000 نسمة، ويبلغ عددهم الآن نحو 800 نسمة لا يقيم منهم في البلدة إلا 100، في حين هاجر أغلبهم أو نزح».
بلدة صفد، التي تهدمت كنيستها في الحرب الأخيرة، يتعايش فيها المسيحيون والشيعة دون أي تفريق مذهبي، لكنها شهدت بيعاً لافتاً للأراضي المملوكة للمسيحيين «فالحاجة إلى المال هي سبب ذلك».
في جميع الأحوال، يغلب الفقر على المسيحيين المقيمين في قرى بنت جبيل، فأغلب البيوت قديمة جداً، والكثير منها مهجور ويحتاج إلى ترميم، ويعتمد أغلب هؤلاء على الوظائف العامة والعمل مع قوات اليونيفيل، إضافة إلى الزراعة، وخاصة التبغ، وبعض المهن الصغيرة الأخرى.