جان عزيز
منذ أيام ليست بقليلة، لم تعد «الحرب الأهلية صامتة» في شوارع بيروت. بل تحولت صارخة. وهذا كافٍ للحديث عنها انطلاقاً من مقاربة الخلفيات والأهداف، وخصوصاً بما بقي من منطق تجنبها في تفاقمها وتسارعها.
في الخلفيات والأهداف، ثمة خطابان متناقضان متقابلان، لا تعوز أياً منهما الحجج والقرائن:
ففريق الموالاة مثلاً، يجزم بأن القرار بجرّ لبنان إلى حرب أهلية جديدة، متخذ في دمشق. وهو ينطلق من حسابات سورية واضحة وأكيدة. فالنظام السوري لم يهضم بما سبق عملية إخراجه من بيروت في ربيع عام 2005. وهو لم يتكيّف راهناً، في إدارته لاستقراره واستمراره كنظام مغلق، مع واقع أن يكون محروماً من خيرات وصايته على الكيان اللبناني، اقتصادياً وأمنياً وسياسياً وخصوصاً جيو ـــــ ستراتيجياً وسط مرحلة حبلى بالتطورات الشرق أوسطية. ودمشق لا تزال تعتبر الورقة اللبنانية هي ورقة «الآص» في لعبتها الإقليمية، لجهة التفاوض على الرقعة المربعة، من العراق إلى غزة، ومن الجولان إلى بيروت. وفي قلب هذه المتاهة من الأزمات ـــــ الفرص، ثمة من يجزم بأن سوريا حاسمة لخياراتها، في أن تعطي في الزوايا الثلاث، لقاء أن تأخذ في لبنان.
وإزاء هذه الخلفيات المتشعبة كلها، يؤكد فريق الموالاة أن دمشق قررت تفجير لبنان. فالتجربة الماضية جاءت مزكّية لصوابية تفجير كهذا. فالدخول السوري إلى الأراضي اللبنانية لم يكن متاحاً لولا «حرب السنتين الأولى». وحتى الدخول نفسه إلى بيروت لم يصر ممكناً، إلاّ بعد الأحداث المذهبية في أزقّة العاصمة اللبنانية في شباط 1987، يوم ذهبت المرجعيات السنية البيروتية واللبنانية، إلى حافظ الأسد بنصاب كامل، راجية سيد نظام البعث الدخول إلى عاصمتهم.
وفي المقابل يقرأ فريق المعارضة أن قرار إشعال الحرب في لبنان قد اتخذته فعلياً أميركا وإسرائيل. وحجة هذا الخطاب مكثّفة ومتعددة المستويات. فهناك أولاً مسألة اللاجئين الفلسطينيين المزمنة في لبنان. ومهما كان منسوب التخيّل أو نظرية المؤامرة على هذا الصعيد، يظل صحيحاً بمقدار ما، أن انفجار عام 1975 لم يكن معزولاً عن هذا البعد. علماً بأن آفاق التسوية الإقليمية آنذاك كانت مسدودة. فكيف وقد أصبحت مفتوحة على اتفاقات كامب دايفيد وأوسلو ووادي عربة، كما على كلام جورج بوش الأخير. ثم هناك في خلفية قرار التفجير نفسه، مسألة الضغط على «نظام الدولة» الحالي في دمشق، عبر الخاصرة السنية اللبنانية، ذات الامتدادات السورية الأكيدة. وهي مسألة متفاعلة أكثر في ظل الصراع المذهبي القائم في المنطقة. وتصير أكثر ضغطاً مع إمرار الاستيعاب الفلسطيني في بيروت. فمهما كان استخدام هذا العامل، أكان لتغيير تصرف دمشق، أم لتغيير نظامها، يظل منطقياً أن تتبنى واشنطن هذا السلوك السياسي، في مرحلة الحاجة الماسة إلى رد فعل سوري ما، حيال القضايا الأميركية العالقة من بغداد إلى رام الله.
وهناك أخيراً، في خلفية القرار الأميركي والإسرائيلي إشعال الحرب اللبنانية، «قضية حزب الله». وفي هذا السياق تقفز إلى الأذهان أولاً مقولة استدراج هذا السلاح إلى حال الاستنزاف الداخلي، ما يعني في الواقع والتكتيك تعطيله وتحييده، ووأده في أتون الصراعات الأهلية التي تنتهي حتماً بأكل أبنائها. لكن الأهم من هذا المعطى الأولي، هو النظرة الأميركية والإسرائيلية إلى خريطة الشرق الأوسط الكبير، من أفغانستان وحتى المغرب. أي النظرة إلى كيفية تعاطيهما مع «المارد الإسلامي» المنبثق من أحداث 11 أيلول، المتزاوجة مع السعر الثلاثي الأرقام لبرميل النفط. ولفهم هذه النظرة، يتذكر البعض «مذهب الخميني» بعد الثورة الإيرانية. وهو مذهب حاول إرساء مسلّمتين أساسيتين: الوحدة الإسلامية بين المذاهب المحمدية أولاً، وتبنّي القضية المركزية للوجدان الإسلامي في فلسطين ثانياً. وكان الخميني مؤمناً بأن اعتماد هذين المبدأين قادر على خلق توازن قوى شرق أوسطي، في مواجهة إسرائيل وأميركا.
لذلك يعتقد فريق المعارضة بأنه بين محطة النويري والطريق الجديدة، ثمة من يسعى إلى نسف «مذهب الخميني». فاستدراج سلاح حزب الله إلى حرب هناك، يضرب المبدأ الأول عبر إضافة ساحة جديدة للفتنة الكبرى المتجددة، كما يضرب المبدأ الثاني للمذهب المذكور، وخصوصاً إذا ما نجح هذا البعض في ضم السلاح الفلسطيني في بيروت إلى سلاح فريق الموالاة.
قد تكون النظريتان صحيحتين. وقد يكون كل من المعارضة والموالاة على صواب. وفي هذه الحال، أولى الحقائق المطروحة على الطرفين، هي إدراك تساويهما في كون رؤوسهما باتت على حد المقصلة، من رفيق الحريري إلى عماد مغنية. وأن للطرفين مصلحة مصيرية واحدة في التلاقي والتفاهم، لإسقاط الخطابين المتناقضين المتقابلين.
في نظريات الحرب التقليدية، يقال عادة إنها يُعرف كيف تبدأ ولا يُعرف كيف تنتهي. في نظرية الحرب الأهلية اللبنانية، بات معروفاً كيف تبدأ وكيف تنتهي: عبثية في المسار، وكارثة مطلقة في النتيجة.