جوان فرشخ بجالي
مرّت سنة ونصف على انتهاء حرب تموز، وأهالي الجنوب «يتخبّطون» شبه وحيدين في ورشة إعادة الإعمار. ورشة وإن أخذت بعد الحرب القليل من الاهتمام، غاصت اليوم تماماً في النسيان. هذا ما بدا واضحاً خلال الندوة التي دعا إليها كل من نادي الساحة وحملة المقاومة المدنية، والتي جرت نهار السبت في قاعة ميتروبوليس في مسرح المدينة تحت عنوان «راجع يتعمر لبنان... بس كيف؟».
المحاضرات والمشاركات حاولن إبقاء النقاش تحت إطار التنظيم الهندسي والمحافظة على الهوية التراثية والثقافية للقرى والمدن الجنوبية التي تضررت بشكل مجنون من القصف الإسرائيلي العشوائي.
أكثر من 130 ألف وحدة سكنية تضررت من الحرب، وأكثر من 12000 بيت هدمت بشكل كامل! في مواجهة هذا الوضع، ومع إلقاء الحكومة اللبنانية كامل المسؤولية على عاتق البلديات، وفي غياب تام للخبرات، قام بعض المهندسين بالخطوة الأولى في محاولة للمحافظة على هوية الجنوب. فتكونت في الجامعة الأميركية في بيروت وحدة مؤلفة من مهندسين، تحدثت هويدا الحريثي عن «تجربتهم» في بنت جبيل، وعن العمل الذي قام به الفريق لإنقاذ المدينة القديمة من براثن الجرافات التي أرادت إزالتها لأن الفكرة الأولى التي طرحت في المجلس البلدي هي بناء مدينة «نموذجية»، أي ذات طرقات واسعة وأبنية شاهقة. وبذل الفريق العلمي جهوداً كبيرة لمحاولة إقناع السلطات بالعكس، ولم يتأخروا عن الوقوف أمام الجرافات لصدها عن الهدم. وحين تحركت القوة السياسية، وقررت العمل بنصائحهم، تم تأسيس مكتب هندسي مختص وأقر المحافظة على 113 بيتاً في المدينة القديمة. ولكن، للأسف، لم تكلل عملية «إنقاذ» الهوية هذه بنجاح مماثل في أي من القرى الأخرى. فعملية إعادة البناء ملقاة بكاملها على عاتق أبناء القرى وعلى مسؤوليتهم، وهذا ما دفع ببعض المهندسين إلى تأسيس جمعية «بيت بالجنوب» التي تعنى بالبناء، لتصحح الأخطاء وتعطي النصائح «للسلامة العامة» كما قال ربيع شبلي مديرها. فإضافة إلى مساعدة الأهالي بشكل مباشر في بناء بيت سليم، تحاول «بيت بالجنوب» العمل أيضاً على إقناع أصحاب القرار بالمحافظة على «جمال» القرى المؤلف إلى حد كبير من البيوت القديمة التي بنيت متلاصقة والتي، كما في زبقين مثلاً، أزيلت لإقامة «ساحة واسعة ونافورة مياه».
قتل الهوية التاريخية لهذه الأبنية لم يتوقف على زبقين وبنت جبيل، فسكان عيتا الشعب، مثلاً، ومن دون أن يدركوا خطورة أفعالهم ـــ عليهم أولاً ـــ دمروا تاريخهم بيدهم. فأكثر من 70 بيتاً أثرياً دمرت في عيتا وأزيلت معها الأحياء القديمة الضيقة المليئة بالقصص والذكريات. وكان لافتاً في المؤتمر، الذي أخذ طابعاً هندسياً علمياً، وجود «مواطنين» من عيتا الشعب أتوا لمشاركة الحضور حزنهم على خسارتهم ومأساتهم.
يسأل أحد المشاركين: «أين هي عيتا قريتي؟ فتلك التي أخذت مكانها اليوم ليست عيتا التي أعرفها. ومن يعوّض عليّ ذكرياتي الضائعة؟ ومن يردّ لي أرث أجدادي؟ فما أضاعته علينا الحرب يتخطى حدود البيت المهدوم الذي يعاد بناؤه، وربما أفضل مما كان عليه، ولكن إعادة الإعمار قتلت الأبنية القديمة والتعويضات قتلت الكرامة. فأهل عيتا يغطيهم عار الدَّين فيخجلون من الخروج من منازلهم».
عكست هذه الندوة صورة حقيقة الوضع بالنسبة إلى إعادة إعمار الجنوب. فمن جهة يقف المهندسون المندفعون للمساعدة والمحافظة على الإرث والذين يحاولون جهدهم عدم الرضوخ أمام صعوبات وتعقيدات الواقع، ومن جهة أخرى يقف أبناء القرى المنهكو القوى. فقد خسروا أحباء لهم في الحرب، ومن ثم خسروا بيوتهم وذاكرتهم وطفولتهم وعاشوا على أمل تعويضات مادية قد تنسي، ولو لوهلة قصيرة، مأساة حياتهم اليومية. فلم تأتِ التعويضات. وها هم اليوم مساجين ما بنوه «بالدَّين» لكي يكون بيتهم الجديد.
بالنسبة إلى الجنوبيين، ما أتى بعد الحرب طعمه مرّ أكثر من طعم القتال، ولكن هل هناك من يسمع تأوّه أوجاعهم؟ فالصراخ بالصوت العالي في الجنوب... ممنوع.