منهال الأمين
يحتلّ شهر شباط مكاناً مميّزاً على روزنامة المقاومة الإسلامية، التي قدّمت في هذا الشهر ثلاثة من قيادييها، استهدفتهم القوات الإسرائيلية اغتيالاً. وقد شكل اغتيال راغب حرب وعباس الموسوي محطتين فاصلتين في طبيعة الصراع مع العدو. إضاءة على جزء من سيرتَيهما

لم يكن مرّ أكثر من ثلاثة أشهر على انتخاب قائد المقاومة (في فترة انطلاقة العمليات النوعية) السيد عباس الموسوي (40 عامًا) أميناً عاماً لـ«حزب الله»، حين قررت إسرائيل أن تغتاله في 16 شباط 1992. ونُفذت العملية في طريق عودة الموسوي من إحياء ذكرى اغتيال قائد الانتفاضة الشعبية الأولى في وجه الاحتلال الشيخ راغب حرب (32 عاماً) الذي استشهد في التاريخ نفسه، عام 1984، في بلدته جبشيت.
بعد 16 عاماً من استشهاد الأول، و24 عاماً من استشهاد الثاني، اغتالت إسرائيل العقل المدبر للمقاومة عماد مغنية (46 عاماً) مكمِل مسيرة حرب والموسوي، اللذين انطلقا بالمقاومة بسلاح قوامه الموقف، أباريق الزيت المغلي والسواعد العارية.

الموقف سلاح

عندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 6 حزيران ـــ يونيو 1982 كان الشيخ راغب حرب في طهران يشارك في مؤتمر أئمة الجمعة السنوي. خفّ مسرعاً إلى لبنان، رافضاً حتى النظر في عيون جنود الاحتلال على الحواجز التي مرّ عليها في طريق العودة. انتظر الشيخ أوّل صلاة جمعة واعتلى المنبر وبدأت الحكاية. دعا الناس إلى مقاطعة الاحتلال مقاطعة مطلقة، فلا بضائع إسرائيلية ولا كلام ولا تبسم مهما كان السبب مع جندي محتل. ردد راغب حرب عالياً: افعلوا كل ما يغيظ الإسرائيلي... نحن أهل الأرض وهم إلى زوال.
لم يرق ذلك للإسرائيليين. حاولوا استيعابه ترهيباً أو ترغيباً فلم يأبه. صعّد لهجته وصار يدعو من انتسب إلى «الحرس الوطني» (مجموعات محلية سلّحها الإسرائيليون لحفظ الأمن في القرى) إلى إلقاء السلاح وإعلان التوبة. أغاظت هذه المواقف الإسرائيليين. وينقل أحد أقرباء الشيخ أن ضابطاً إسرائيلياً حضر إلى منزله يوماً على رأس قوة. اقترب من حرب ومد يده مصافحاً. وضع الشيخ راغب يديه وراء ظهره ونهر الضابط لأنه دخل المنزل دون إذن، قائلاً: «أنا لا أصافح محتلاً.. اخرج من منزلي». فقال له الضابط: «أهكذا تعامل ضيوفك». فأجابه الشيخ: «أنتم محتلون فلا تتوقعوا أن نستقبلكم بالورود». خرج الضابط وهو يتوعد الشيخ بالويل والثبور.
بدأت الأمور تتجه نحو الأسوأ. صار الشيخ ملاحقاً من قبل العدو فلم يعد يبيت في منزله، بل يتنقل من منزل إلى آخر، إلى أن تمكن العدو من اعتقاله في آذار 1983.
قبل ذلك، كان الشيخ راغب متحركاً في التصدي للجيش الإسرائيلي بمبادرة فردية وبإمكانيات متواضعة تماماً كما كان ناشطاً في العمل الاجتماعي الذي كانت باكورته مبرة السيدة زينب في بلدته جبشيت. نواة المبرة الأولى كانت بعض غرف منزل الشيخ. وتروي زوجته «أم أحمد» أنه افتتح في المنزل قسماً للفتيات من أيتام القرية والقرى المجاورة ليكنّ تحت رعايتها هي، فيما خصص الطابق الأرضي من الحسينية للفتيان.
كان الشيخ راغب يتمتع بشخصية عفوية، نكتته حاضرة وقلبه يتسع للجميع. يحل المشكلات ببساطة شديدة، يتقرّب من الكبير والصغير. أعاد إقامة صلاة الجمعة في مسجد جبشيت وتحولت مع الوقت مقصداً لأهالي القرى المجاورة. فاحتل مكانة كبيرة في المحيط في فترة وجيزة جداً.
لذلك، قوبل اعتقاله بردّة فعل شعبية برزت في الاعتصام الشهير في حسينية جبشيت، وهو أول احتجاج علني تحت الاحتلال استمر 17 يوماً، وشارك فيه مواطنون من كل المناطق ونقلت وقائعه وسائل الإعلام العربية والعالمية.
في المعتقل كان راغب حرب يخوض معركته مع المحققين الذين حاولوا مساومته: «نطلق سراحك شرط ألّا تهاجمنا». «لا أعدكم». «ارحل إلى الضاحية». «لا أريد. أرضي أولى بي». «افترض أن شاباً ممن تحمّسهم على قتالنا رمى قنبلة على دورية؟». «هذه مشكلتكم وليست مشكلتي، أنا أتكلم على المنبر علناً حتى إنكم لستم بحاجة إلى عنصر مخابرات حتى ينقل حديثي».
اضطر العدو تحت الضغط الشعبي للإفراج عن الشيخ الذي لم يكتف بقيادة الانتفاضة الشعبية، بل كان له دور أيضاً بما استطاع إليه سبيلاً في العمل المقاوم المسلّح. كان الشيخ راغب يعلم أنه سلك الطريق الصعب، ومع أنه لم يخطط لأن يكون رقماً صعباً إلا أنه صار كذلك فعلاً، فخطط العدو للتخلص منه لأنه بات يشكل عبئاً. واغتاله عبر بعض العملاء بعد أن خرج من منزله بوقت قصير ليشعل استشهاده الأرض تحت المحتلين لأن الشيخ كان قد أرسى حالة من الرفض والتمرّد على الاحتلال.

لا للعصر الإسرائيلي

في مكان ما، كان عباس الموسوي يؤسس تشكيلاً مقاوماً. ابن الحوزة العلمية في النجف كان متحمساً لقتال إسرائيل مذ كان يافعًا (14عاماً) حيث أصيب في رجله في أحد معسكرات التدريب التابعة للمقاومة الفلسطينية (وهو يشترك في هذا الأمر مع الشيخ راغب الذي كان قد التحق بمعسكرات المقاومة الفلسطينية، وكذلك درس العلوم الدينية في النجف). بعد سنوات من الدراسة في النجف، اضطر السيّد للعودة إلى لبنان إثر الملاحقات التي كان يتعرض لها طلاب العلوم الدينية في العراق. أسس حوزة الإمام المنتظر في بعلبك حيث تتلمذ على يديه العشرات ممن كان لهم شأن في المقاومة وحزب الله في ما بعد، وأبرزهم السيد حسن نصر الله نفسه. بعد الاجتياح أسس السيد عباس ومجموعة من رفاقه نواة حركة قتالية عقائدية فكانوا نواة الدورة التدريبية الأولى وأول مهمة قتالية قبل أن تتوسع حركتهم لتشمل معظم الأراضي اللبنانية. كان هذا التنظيم يتحرّك بسرية مطلقة إلى ان أعلن عن نفسه في رسالة إلى الأمة تحت اسم «حزب الله».
يقول أحد العلماء الذين عملوا مع السيد عباس بين عامي 85 و87 (حيث كان مسؤول الجنوب آنذاك) إن الفترة التي تلت استشهاد الشيخ راغب وكذلك محمد سعد وخليل جرادي (اغتالتهما إسرائيل في تفجير حسينية بلدة معركة) كانت الساحة الجنوبية تفتقد للقائد الميداني. جاء السيد عباس بما يحمله من مشروع للعمل المقاوم ليسدّ هذا الفراغ. يلخص رفيق السيد عباس استراتيجية الشهيد بأنه كان يسعى لحضور المقاومة بين الناس وحضور الناس في المقاومة. فالمقاومة كانت تمتلك بريق العمليات الاستشهادية والنوعية، ولكن الأهم في نظره أن تكون لديها مقبولية لدى الناس، فهذا يعطيها مشروعية تضرب جذورها في العمق.
يوصف السيد عباس بأنه كان ترابياً متواضعاً إلى أبعد الحدود. يتصرف بعفوية مع الناس. يصرّ على تقبيل كل من يلتقيه في جبينه. ولذا فإنه ـــ كما راغب حرب ـــ دخل القلوب دون استئذان، يعلق الرفيق نفسه ويضيف: «كان يتمثل الأنبياء في كل ما يقول ويفعل. تلميذ السيد محمد باقر الصدر. استلهم من الإمام الخميني أن يصنع من المستحيل قدراً وواقعاً. كان خفيف الحركة. يستطيع أن يتابع كمّاً هائلاً من الملفات في وقت واحد. وكان كل ذلك في ظل تهديد أمني حقيقي، حيث تعرّض للعديد من محاولات الاغتيال والخطف (لم يعلن عنها سابقاً). ورغم ذلك، كان مصرّاً على ملازمة الجنوب (مكتبه في صور، حي الرمل، قريب من البحر)».
وينقل نجله الأكبر ياسر (32 عاماً) أن أحد المراسلين الأجانب سأل السيد في مقابلة صحافية «ألا تخاف من الأسر أو الاغتيال في هذا المكان قرب البحر». فأجابه السيد «عادةً، الصيد يكون من البحر إلى البر وليس العكس، فاطمئن».
أثبتت الفترة التي أمضاها السيد مسؤولاً لشورى الجنوب (سنتان) أنه جدير بالقيادة. حيث يرى الكثيرون أن له الفضل في زرع حزب الله وتقوية شوكته في الجنوب. ففي هذه الفترة نفذت المقاومة العديد من العمليات النوعية في المنطقة المحتلة والتي كانت تحت الإشراف المباشر للسيّد عباس. يجهز المقاومين ويودعهم، ويستقبلهم عند العودة، ويتفقدهم واحداً واحداً. ويصف الرفيق المذكور علاقة السيد بالمقاومين بأنها كانت كعلاقة الأب بأولاده.
في عملية الأسيرين الأولى في 16شباط 1986 (ذكرى الشيخ راغب الثانية)، والتي كان الهدف منها تحرير أسرى لبنانيين من سجون الاحتلال، نفذت إسرائيل اجتياحاً محدوداً لعدد من القرى أصرّ الشهيد على البقاء على خط التماس في صريفا ولم ينسحب إلا بعد أن حضر السيد حسن نصر الله وأقنعه بضرورة المغادرة.
بقي الجنوب همّ السيد وشغله الشاغل. حتى إنه في إحدى السنين اضطر لاستدعاء عائلته إلى الجنوب لقضاء العطلة الصيفية بالقرب منه لأنه كان يضطر للغياب عنهم فترات طويلة تمتد لأسابيع أحياناً، كما يقول نجله ياسر.
كان السيد يقضي ساعات طويلة في العمل، يتابع الكثير من القضايا يومياً، وعلى رأسها المقاومة. وحين يأوي إلى المنزل ليلاً (بعد الساعة العاشرة)، كان هناك من يترصده من أصحاب الحوائج الذين كانوا يقصدونه لخدمة ما، وهو لا يصدّ أحداً ولا يقبل أن يسيء أحد معاملة ضيوفه. ويصفه الرفيق بأنه «ما كانت تغفو عيناه إلا رغماً عنه». ويروي أنه كان يحضّر الطعام لمرافقيه ويغسل الأواني ويرفض أن يعامل معاملة خاصة.
في المنزل، لم يكن الوضع مختلفاً، يروي ياسر: «كنا نعيش في حالة تأهب 24/24، تحضّر أمي طعاماً 3 أو 4 مرات في بعض الأيام، إضافة إلى أن أبي كان معرضاً للاغتيال وحياته معقدة بشكل كبير، ولكن كانت أمي تقابل كل ذلك بصبر وتحمل قلّ نظيرهما».
بالنسبة لياسر، فإنه ليس من السهل أن يتمثل المرء بالسيد عباس تماماً لأنه كان شخصاً مثالياً بكل معنى الكلمة، إلا أنه يشكل بالنسبة له رادعاً من نفسه لكثير من الأمور. ومثالاً يقتدى للكثير ممن عرفه وخبر أخلاقه ومن أي المعادن هو.





رحلة الموسوي الأخيرة إلى جبشيت

كان استشهاد السيد عباس أمراً متوقعاً في أي لحظة لدى كل المحيطين به، وهو كان يهيئ الأجواء لذلك الأمر. يقول نجله ياسر إن والده كان يلمّح إلى أن مسيرة المقاومة تحتاج إلى زخم، شهادة مدوية، وربما كان يرى أنه أولى من يتطوع لذلك. ويذكر أن والده توعك صحياً قبل ذكرى الشيخ راغب بيومين.
استُدعيَ الطبيب إلى المنزل فأشار على السيد بضرورة إجراء فحوصات عامة. أجاب الموسوي «مش محرزة يا حكيم». فوجئ الطبيب من رده، فطمأنه السيد: «إن شاء الله منعمل الفحوصات»!
وبسبب حالته الصحية، لم يكن مقرّراً أن يتوجه إلى الجنوب للمشاركة في ذكرى الشيخ راغب حرب. إلا أنه شعر مساء بتحسن وقرّر الذهاب وأبلغ أم ياسر بأن تتحضر، شرع يكتب خطبته التي سميت «خطبة الوداع». في الصباح أصرّ الطفل حسين على الذهاب مع والديه، وهكذا كان، وخصوصاً أن السيد كان متعلقاً بحسين إلى درجة أنه كان يصطحبه إلى جلسات الشورى كما يقول ياسر. مرّ كل شيء بسلام، ألقى السيد خطابه الشهير الذي كان مؤثراً وتاريخياً كما يصفه كثيرون. أودع جمهور المقاومة وصيّته وخط الطريق إلى حيث يرجو.
على طريق تفاحتا، أغارت الطائرات الإسرائيلية على موكبه فأصيبت سيارته بالصاروخ الأول عن طريق الصدفة. كما روى أخيراً طيارون إسرائيليون شاركوا في العملية. ثم أجهزت الطائرات على بقية الموكب، سيارة سيارة، لتأكيد تصفية الشخص المستهدف الذي لم يطلعوا على هويته (أيضاً بحسب رواية الطيارين أنفسهم) إلا من خلال نشرات الأخبار. ولم يكن الهدف إلا قائد المقاومة السيد عباس الموسوي وزوجته وطفله حيث أصاب الصاروخ مقعدهم مباشرة فاستشهدوا على الفور وقذف بالمرافقين إلى الخارج فبقيا على قيد الحياة.
يروي ياسر أن والده كان يدعو الله دائماً أن لا يتأذى أحد من مرافقيه بسببه. ويستوقفه هنا كيف نجا المرافقان من السيارة التي أصابها الصاروخ حيث استشهد والداه وشقيقه. وكذلك في إحدى المرات حين تعطلت المكابح فجأة في إحدى سيارات موكب السيد فانزلقت بركابها نحو واد سحيق ولم يصب أي من الشباب الخمسة ولو بخدش بسيط رغم أن السيارة تحطمت بشكل كامل.
ولا يتذكر ياسر أن والده أغضب أحداً يوماً. كان يعامل أمه معاملة خاصة. حتى إنه كان يستهجن حديث رفاقه عن الخلافات المنزلية وأن زوجاً يهين زوجته. ويقول ياسر عن أمه التي استشهدت مع والده وشقيقه الأصغر حسين (6سنوات) إنها كان ينطبق عليها القول «وراء كل عظيم امرأة».