جوان فرشخ بجالي
شكل العُثور، مصادفة، على أقدم مخطوطة مسيحية في العالم في دير السريان في مصر، مناسبة لإعادة الحديث عن عملية احتيال نفذها مبعوث من المتحف البريطاني للحصول على مخطوطات قديمة. قصة المخطوطة وحال الدير اليوم تلخصان وضع الآثار في هذه المنطقة من العالم منذ القرن الماضي

«عثر على أقدم مخطوطة مسيحية في التاريخ في دير السريان في مصر». هكذا عنونت الجرائد الإنكليزية الخبر الذي نُشر هذا الأسبوع ووردت في تفاصيله قصة اكتشاف المخطوطة المؤرّخة سنة 411 ميلادية والتي تشكّل «الصفحة الأخيرة من كتاب حياة القديسين الشهداء» الذي كان المتحف البريطاني قد حصل عليه في القرن التاسع عشر.
وقد عثر على هذه الصفحة تحت أرضية البرج الذي تهاوى في القرن الـ19، والذي كان يُحفظ داخل أقبيته زيت الزيتون... والمخطوطات القديمة. وتناقلت الجرائد خبر الاكتشاف وأهميته العلمية وسلّطت الضوء على «مغامرة اكتشاف هذا المخطوط الفريدة من نوعها»!
لكن الحقيقة، أن الاكتشاف بقدر ما هو مغامرة بالنسبة لمتاحف الغرب ومجموعاتها، فهو أيضاً يشكّل مأساة بالنسبة لتاريخ الشرق. فمغامرة الاكتشاف هذه هي في الحقيقة قصة عملية احتيال وسرقة. ففي سنة 1837 أرسل المتحف البريطاني إلى مصر اللورد كورزن بمهمة محددة هي الحصول على مخطوطات قديمة. بدأ اللورد جولته على الأديرة القبطية وبدأ عملية شراء مخطوطات يقبل الرهبان بيعها. وأثناء جولته تلك، سمع اللورد بوجود مخطوطات قديمة جداً في برج دير السريان، فتوجه إلى الدير المنشود. وهناك كان يعيش بعض من الرهبان وعلى رأسهم قسّ طاعن في السن وأعمى. أقنعهم اللورد كوزن ببيعه ثلاث مخطوطات قبطية، فقبلوا. ولكن قبل أن يغادر، حاول اللورد دخول البرج القديم حيث يحتفظ بالكتب القديمة ولم يفلح. فتذكر حينها «أن قنينة من النبيذ المعتق جيداً هي أفضل طريق إلى قلوب الرهبان الشرقيين» كما كتب في مذكراته. وبعدما أفقد الخمر القسّ العجوز وعيه، طلب منه اللورد أن يرسله إلى البرج ليرى خوابي زيت الزيتون، ففعل. وحينما دخل الأقبية يقول إنه عثر «على خزانة تعلو أكثر من متر مليئة بالمجلدات القديمة المكتوبة باللغة السريانية، فأخذتُ أربعة منها كانت تبدو كاملة ولكن تمزّقت الصفحة الأخيرة لأحدها. وحاولت أن أقنع القس ببيعها لي مقابل كمية من الدراهم ولكن القس السكران سمح له بأن يأخذ كتباً تخبأ في جعبة واحدة من جعبات الجمل لكي لا ينتبه الباقون لما يجري». ما اضطر اللورد إلى ترك كتاب قديم وأخذ ثلاثة أخرى من بينها مجلد «حياة القديسين الشهداء» الذي عثر مؤخراً على صفحته الأخيرة.
وكان دير السريان قد حصل على هذه المخطوطة التي كتبت في مدينة أديسا (الواقعة في تركيا اليوم) من مكتبة في بغداد زارها رئيس الدير سنة 931. وفي سنة 1086 أضاف قسّ في دير السريان سطراً في وسط الكتاب معرباً فيه عن خوفه من أن يفقد «المخطوط القديم» صفحته الأخيرة التي تؤرّخه إلى العام 411. وقد لعبت حكمة هذا القس الدور الأكبر في تأريخ الكتاب المسروق الذي كان حافزاً للمتحف البريطاني لإرسال بعثتين كبيرتين إلى دير السريان لشراء مخطوطات قديمة. وتكلل عمل تلك البعثات بالنجاح وحصل المتحف على أكثر من 200 كتاب ومخطوط.
لكن المؤسف جداً هو أن مأساة دير السريان لم تنتهِ في القرن التاسع عشر، بل لا تزال تطاله حتى اليوم. ذلك أن اكتشاف الصفحة الأخيرة جاء وليد مصادفة بعد أن قرّر القيمون على الدير ترميم البرج القديم من دون وجود أي عالم للآثار أو مختصّ في الترميم ومن دون حتى نخل التربة، ولو أنّ القس المسؤول عن المكتبة اليوم لم ينتبه إلى «فتات الورق» تحت أرضية البرج لرميت هذه المخطوطات مع الركام القديم.
أما بالنسبة للمكتبة التي لا تزال تحوي 1000 مخطوطة وكتاب، فهي لا تزال تحت «الرقابة» البريطانية بعد أن بدأ باحثون بريطانيون بدراسة المخطوطات من خلال بعثات علمية تعمل داخل مكتبة الدير. وتحاول هذه البعثات، من جهة قراءة المخطوطات، ومن جهة أخرى المحافظة عليها بعد أن بدأت الحشرات تأكلها، ذلك أن الرهبان قرروا، بعد عملية السرقة في القرن التاسع عشر، وضع تلك المخطوطات في غرفهم وإبعادها عن أقبية البرج حيث كان الجوّ الجاف قد حافظ عليها لأكثر من 1000 سنة.
وفي سبعينيات القرن الماضي بنى القيّمون على الدير مكتبة للمخطوطات. ولكن لم تزوّد هذه الأخيرة بآلات ضرورية لتثبيت الجو داخل غرفها. فكانت الحرارة والرطوبة تتغيران مع الفصول، ما يشكل عامل تفتت سريعاً للكتب. وهذا ما دفع المتحف البريطاني إلى مساعدة الدير في المحافظة على إرثه، وهو أقل ما يمكن أن يقوم به. فأنشأ بعثة بريطانية ـــــ مصرية ممولة بـ400 ألف جنيه استرليني (ما يقارب 800 ألف دولار أميركي) لتجهيز المكتبة بالغرف العازلة. وقد تكلل عمل البعثة بنجاح تلو الآخر، إذ سمح إنشاء فهرس بالمخطوطات باكتشاف أقدم إنجيل من العهد القديم معروف حتى اليوم ويعود تاريخه إلى 459 ميلادية. هذا وستبدأ البعثة عما قريب قراءة الكتب القديمة وترجمتها... فالمستقبل سيزهر حتماً باكتشافات أخرى.



أولى الآثار المسيحية في العالم

يطلق على دير السريان المبنيّ في وادي النطرون في الصحراء إلى شرق دلتا النيل اسم دير «سفينة نوح» لأنّ شكله الهندسي يشبه السفينة. هو من أول الأديرة المسيحية في العالم، وقد حافظ داخل جدرانه التي ترتفع بعلو 12 متراً على أكبر وأقدم مجموعة من المخطوطات التي ترجع الى 1600 سنة مضت. كما أن جدران كنيسته قد طُليت برسومات تتبع التقويم الفني البيزنطي ولكن بأسلوب خاص بها. وتعتبر تلك الجداريات من روائع الفن المسيحي الأوّل في العالم.
والدير الذي تأسّس في القرن السادس الميلادي يحمل اسم العذراء مريم. إذ تقول «الأسطورة» إنها كانت قد استراحت حينما كانت هاربة إلى مصر مع الطفل يسوع ويوسف النجار. وكان وادي النطرون مسكناً للنسّاك الذين يعيشون في مغاوره منذ أوائل الديانة المسيحية. وفي عام 451 ميلادية شيّدت الكنسية القبطية المنفصلة حديثاً عن الامبرطورية البيزنطية الدير وبدأ الرهبان التنسّك داخل جدرانه. وقد أطلق عليه اسم «دير السريان» نسبة إلى مجموعة من الرهبان القادمين من سوريا والعراق والذين يتكلمون اللغة السريانية والذين تبعوا الكنيسة القبطية وسكنوا الدير. بقيت الأمور على حالها، وبقي الدير يحافظ على تقاليده ولغته ومكتبته التي يضيف إليها رهبانه سنة بعد سنة كتباً خاصة، خصوصاً أنهم كانوا على اتصال بكلّ الكنائس الشرقية والأثيوبية.
وفي أواسط القرن الماضي بدأت فكرة ترميم الدير، وبقي العمل البسيط ينجز إلى أن وصلت الرخص بورشة الترميم من المجلس الأعلى للآثار في مصر. ففي تسعينيات القرن الماضي، جاءت مرحلة التغيير الجذري للدير. فعملية الترميم لم تلحظ استعمال مواد البناء القديمة، بل استُعمل الإسمنت والحديد... ولم تكن هناك محاولة فعلية للحفاظ على طابع الدير وهويته التاريخية. جاء كل ذلك تحت عنوان تأهيل الدير وما حوله. فبدأت عملية ريّ الأراضي المجاورة وتحوّلت الصحراء التي كانت السبب الأساسي في إنشاء الدير إلى أرض مزروعة خضراء يعيش الرهبان من بيع محاصيلها. وهذا ما يقتل تماماً كيان دير السريان الذي بدأ تاريخه كصومعات للنسّاك منسية في الصحراء! ولكن، هذا هو خيار رهبان الدير الذين لا يزالون يسكنون فيه ويرفضون تحويله إلى موقع أثري بحت بل يريدون أن يعيشوا بتسهيلات حياة القرن العشرين بعد أن وصلت في سنة 2000 الطريق المعبدة والكهرباء والهاتف إلى الدير. وهو سيتحوّل عما قريب إلى نقطة سياحية دينية مهمة.