جان عزيز
ماذا يمكننا أن نفعل؟ عبارة كرّرها طيلة حديثه، المسؤول الأوروبي الرفيع المستوى، الزائر لبيروت، في محطة من يومين، بين سابقتها في تل أبيب وتاليتها في دمشق.
يعرف الوضع اللبناني جيداً. والأهم أنه يدرك مأزقيته. «الأكثر صعوبة ودقّة لديكم، هو هذا الاندماج الكامل بين مستويين: مستوى الصراع الوجودي للجماعات، ومستوى الصراع السياسي على السلطة للزعماء». يقولها بلهجة الباحث السوسيو ـــــ استراتيجي، قبل أن يتابع: لكننا نحن كجهة دولية، لا يمكننا التعاطي إلاّ مع البعد الآني والسياسي للأمور، مع إدراكنا أهمية الأبعاد البنيوية الأخرى وجوهريّتها. وحول هذه الأبعاد، يتوقف الدبلوماسي الأوروبي مطوّلاً عند العوامل الخارجية المؤثرة في لبنان، إقليمياً ودولياً: هناك شيء ما لديكم، في نظامكم أو في سلوككم، يجعل تركيبتكم في حاجة دائمة إلى «حَكَم» خارجي. وهذا أخطر ما يتكوّن من انطباع عن بلادكم. لكن نحن نقول إن المسؤولية هي مسؤولية اللبنانيين، رغم كل العوامل والظروف الضاغطة والمؤثرة.
ويضيف الدبلوماسي الأوروبي الزائر: هذه المسؤولية أضحت الآن أكبر وأدقّ. فبعد الفراغ السياسي والرئاسي، أنتم الآن على عتبة فراغ أمني. وهذا يعني حياتكم وحياة مواطنيكم مباشرة. ولذلك فمسؤوليتكم أساسية وأولوية.
ويكفي سؤال واحد ليغوص الزائر المسؤول في الوقائع السياسية: لكن ماذا عن احتمال أن تكون الحرب الأهلية الجديدة في لبنان، قد باتت مطلباً لأكثر من طرف خارجي؟ ماذا لو كان انفجار الوضع في بيروت قد أصبح نقطة تقاطع بين المتصارعين في المنطقة؟ يجيب المسؤول الأوروبي المعني بأوضاع المحيط: لم نسمع شيئاً من هذا في إسرائيل، ولا طبعاً من الأميركيين، ثم إن قراءتنا الخاصة لموقفي تل أبيب وواشنطن، تجعلنا نعتقد أنهما في غنى عن التورّط في حرب داخلية لبنانية. كما أن الحروب الإقليمية في الشرق الأوسط مستبعدة حالياً. وليس في الأفق أي تطور كبير على مستوى منطقتكم، يمكن لحرب داخلية عندكم أن تمهّد له أو أن تكون نتيجته.
ومن الجهة المقابلة، يتابع المسؤول الأوروبي: نحن شهود على أن سوريا كانت صادقة في السعي إلى حل رئاسي في الأسبوع الأخير من العام المنصرم. لقد أبلغ وليد المعلم أكثر من عاصمة أوروبية فاعلة هذه النيّة السورية الحاسمة. وكنا نتابع ترجمتها العملية عبر المبادرة الفرنسية. ما أبلغه السوريون لباريس قبل نهاية السنة الماضية كان جديّاً وحاسماً، على طريق إنجاز تسوية لبنانية ما.
ما الذي حصل إذاً وأدّى إلى العرقلة؟ يجيب المسؤول الأوروبي: التحفّظات حيال الحل كانت حاسمة وراجحة، وهي تكاملت عبر ثلاث دوائر. لبنانياً كان اعتراض واضح من فريق الموالاة، تزاوج مع تحفّظ سعودي، قبل أن يتوّج برفض أميركي. والمشكلة هنا أن باريس رضخت لهذه الاعتراضات. فالانفتاح الفرنسي ـــــ السعودي الذي جاء متزامناً مع تلك الحركة، جعل نيكولا ساركوزي أكثر تأثّراً برغبات الرياض. يضاف إلى ذلك اصطفاف الإليزيه بإدارته الجديدة، إلى جانب واشنطن. وهذا ما سبّب إحراجاً كبيراً للرئيس الفرنسي، وجد المخرج الوحيد منه بإبلاغ دمشق قطع الاتصالات معها.
ويتابع المسؤول الأوروبي: بعدما حاولت برلين جسّ النبض، استقبلت وليد المعلم، في سعي إلى مساعدة المبادرة الفرنسية المتعثّرة. لكن الانتقادات انهالت عليها من بيروت إلى واشنطن. وفي أوروبا، عليكم أن تدركوا أن أي مسؤول يفكر أولاً في ما يمكن أن يحصده سياسياً من أي خطوة. ولذلك في ظل الوضع الراهن، لا يمكن الرهان على أي جديد أوروبي. لكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر طويلاً. لماذا؟ أولاً لأن الموقف الفرنسي أصبح في لحظة حرجة، فالاصطفاف خلف واشنطن، الذي فرضته باريس على كل شركائها الأوروبيين، بات موضع أكثر من تساؤل وتحفّظ وعلامة استفهام وجدوى. حتى إن هذا الموقف أضحى موضع تململ فرنسي داخلي. لا تُفاجأوا إذا أفقتم في يوم قريب آتٍ على خبر استقالة برنار كوشنير. فالعلاقة المتوترة بين الإليزيه والكي دورسيه لم تعد سرّاً. ولا تفاجأوا إذا سمعتم بغتةً أخباراً عن تغييرات فرنسية أكثر اتساعاً.
هذا التطور، في حال حصوله، سيعيد هامش الحركة الأوروبية إلى وضع يسمح أكثر بالمبادرة والمحاولة، من ضمن المبادئ الغربية العامة للموقف حيال أزمة الشرق الأوسط. لكنه بالتأكيد يفتح ثغرة ولو صغيرةً تتيح عودة التواصل بين أطراف الصراع.
لكن الأهم أن وضعكم لن يكون مؤبّداً، لأنه في الأسابيع القليلة المقبلة لن يعود الستاتوكو القائم في بيروت قابلاً للاستمرار. مهما كانت قدراتكم المعروفة والمشهود لها بالتكيّف مع الأوضاع الغريبة والشاذّة وغير المسبوقة، نحن نعتقد بأن الأزمة الراهنة لن تستمر طويلاً على حالها اليوم. ثمّة تطورات ستحدث، وستؤدي إلى تغييرات ما، تجعل الجمود أمراً مستحيلاً. يصمت المسؤول الأوروبي، قبل أن يفاجئ سامعه بسؤال: مَن قال مثلاً إن عماد مغنية سيسقط؟!
يسكت الدبلوماسي الرفيع المستوى على خلفيات سؤاله، قبل ساعات من انتقاله إلى دمشق.