إبراهيم الأمين
ليس في بيروت من هو مقتنع بأن الفرج بات قريباً. وكل الكلام المعسول عن التوحد والوحدة والشراكة والعيش المشترك والسلم الأهلي والاستقلال والسيادة يظل في إطار الكذب الذي يستهلك أوراقاً وأوقاتاً من الناس الذين يرغبون بتصديق ما يسمعونه، لكنهم سرعان ما يعودون إلى حياتهم اليومية، يصرخ بعضهم في وجه بعض، معلنين انحيازاً لا سابق له من حيث جدته إلى جانب هذا الفريق أو غيره. أما الجهاز السياسي الذي يتعاقب أقطابه على غش النار على طريقة طبخة البحص، فهم أكثر من يتوتر حالياً، وأكثر من يستشعر رأسه كل صباح ومساء، وهم أكثر من يقلق على ما هو مجهول في بلد يكاد الاغتيال السياسي يتحول فيه إلى عنوان لصيق بالسجال السياسي. ومع ذلك، فإن الحسابات الخارجية تبقى هي الأقوى. وليس في لبنان من يقدر على إقناع أحد في واشنطن والرياض والقاهرة وعمان قبل دمشق وطهران، بأن لبنان قد ينفجر بطريقة تصيب كل القريب والبعيد، وأن أي نار جديدة سوف تشتعل لن تقف في مكانها. وثمة ما يمثّل دعوة إلى مشهد الضحك المفتوح عندما تصدر بيانات من العواصم العربية أو من قادة فريق الأكثرية بأن هذه العواصم كانت على الدوام إلى جانب لبنان، تعطيه من دون مقابل، وأن دولة مثل السعودية لا تتدخل على الإطلاق في الشأن الداخلي اللبناني.
لكن هل هناك من نقاش مختلف في بيروت؟
لماذا بيروت؟ يجيب مرجع سياسي على صلة بالنقاش الدائر حالياً، أن السؤال عن بيروت، لأن طبيعة المناكفات الجارية الآن توحي كأن هناك من يريد القيام باختبار لموازين القوى في بيروت، لا في أي مكان آخر. ويوضح: إن وليد جنبلاط يعتمد استراتيجية ناجحة لناحية تولّيه التعبئة ونقل كلفتها إلى بيروت، ويحرص بكل قوة على تفادي أي نوع من الاحتكاكات في مناطق الجبل. وإن سمير جعجع يحسب الأمور بطريقة تجعله يبتعد الآن عن فكرة المواجهة التي قد تأخذ طابعاً مسيحياً ــــ مسيحياً، فيما تظل بيروت مدينة مفتوحة تحوي الخليط الذي يتيح اختبار القوى، ومن شأن أي توتر يأخذ طابعاً مذهبياً بين السنّة والشيعة أن ينعكس سريعاً على الخارج، حيث ستكون هناك استنفارات من الطابع نفسه، وسوف تفرض على عواصم القرار التدخل سريعاً.
ويكشف المرجع نفسه عن نقاشات تجري، بعضها بصوت خفيض، وآخر بصوت أكثر ارتفاعاً داخل الأوساط النافذة في تيار «المستقبل»، تتصل بالجدوى من هذه المواجهات. وإذ يجزم المرجع بعدم وجود خلافات سياسية بين المتناقشين وأن هناك نوعاً من التسليم بالخط العام الذي يتّبعه النائب سعد الحريري وبوجود اعتراض كبير على المعارضة، ولا سيما على حزب الله، إلا أن الأمر يتعلق بنظام من المصالح يدل على منطق مختلف عما كان سائداً خلال الأشهر الماضية، إذ إن المترددين أو الداعين إلى التعمّق في أي قرار، يطرحون أسئلة من بينها:
هل تكون بيروت حصراً مكاناً لمواجهات لن يكون بمقدور أحد ضبطها شكلاً وحجماً؟ وهل تدفع بيروت وحدها، دون أي منطقة أخرى، ثمن الشعار السياسي المعتمد حالياً؟ وهل تكون بيروت، وهي ساحة تخص «المستقبل»، أرض المعركة مع خصومها، فيما لا يمكن مواجهة الخصوم في مناطقهم؟ وهل على أبناء بيروت تحمّل تبعة المعركة دون أي نوع من المساهمة من جانب الآخرين؟ وهل يكون الانقسام والحريق قائمين في العاصمة وحدها، فيعطّلان الحياة فيها نهائياً ويفرضان فرزاً يقضي على كل اختلاط وعلى كل تنوّع؟ وهل على بيروت تحمّل وضع المدينة المغلقة التي سرعان ما تواجه مشاكلها الداخلية؟
وبحسب المرجع، فإن نقاشاً من نوع مختلف جرى بين شخصيات غير مدنية قريبة من زعيم تيار «المستقبل» وبينه، تناولت الوضع لناحية الحسابات الواقعية، ولفت انتباه الزعيم الشاب والمتحمس، إلى أنّ ما ينقل إليه من قبضايات الأحياء ومسؤولي الأزقة لا يكفي لخوض معركة، وأنّ أي انقسام يعطّل قدرة الجيش أو قوى الأمن الداخلي على التدخل لمنع مواجهة أو لكبح جماح الآخرين، سوف يجعل بيروت وتيار «المستقبل» في موقع غير القادر على حسم أيّ أمر بسرعة، وسوف يكون عرضة لعملية استنزاف كبيرة لن ينفع معها أي نوع من الدعم الخارجي، لا من جانب قوى حليفة، مثل أنصار جنبلاط وجعجع، ولا من الخارج البعيد أيضاً، وسوف ينتهي الأمر عند مواجهة غير محسوبة النتائج، وتأتي على قدرات التيار وتعطّل تفاعله. عدا عن أنه ليس هناك أيّ نوع من الضمانات بأن لا يلجأ الفريق الآخر إلى فتح جبهات من النوع الذي يعطّل قدرة الشمال على دعم العاصمة.
إلى جانب هذه الحسابات، فإن النقاش بدأ يشمل غالبية العائلات البيروتية المتضامنة مع تيار «المستقبل» التي عبّرت بأشكال مختلفة عن وقوفها إلى جانب الخيار السياسي الذي يمثّله الحريري. وهو نقاش يتعلق بمستقبل الحياة اليومية في ظل توترات أعنف من التي جرت، وخصوصاً أن قرار الدول العربية الغنية منع رعاياها من السفر إلى لبنان سوف يكون مرهوناً بنتائجه السلبية على بيروت لا بقية المناطق، وهذا الأمر سوف تكون له انعكاساته المادية بالدرجة الأولى، عدا عن أن المرافق الأساسية في الدولة قد لا تظل عاملة بالطريقة نفسها، من المطار إلى مرفأ بيروت إلى خطوط التواصل مع المناطق الأخرى. وقد يتحول الأمر سريعاً إلى تحويل بيروت إلى عاصمة محاصرة من جانب أهلها، وبطريقة لا تؤدي إلى شيء سوى العزلة والخسارة.
وبحسب المرجع نفسه، فإن هذا النقاش قائم بقوة، وقد يكون له تأثيره الكبير على مسار المرحلة المقبلة، برغم كل الضغوط الخارجية. ولكنه يسأل: هل سيكون بمقدور أحد منع ما يريده الأميركيون الآن؟ وهل يحسب هؤلاء حساباً لاحتمال أن لا يقف الطرف الآخر مكتوف الأيدي، أم تسير الأمور بخطى حثيثة نحو الخراب.