نقولا ناصيف
بعدما سلّم الأفرقاء اللبنانيون بتأجيل حلّ المشكلة الدستورية والسياسية إلى ما بعد القمة العربية المقرّرة في دمشق، وباتوا يتطلعون إلى هذا الاستحقاق على أنه مؤشر على العلاقة بين السعودية وسوريا، وعلاقتهما بالوضع اللبناني، تدرج جهات حكومية بارزة الأيام الفاصلة عن قمة دمشق في الملاحظات الآتية:
1 ــــ اعتقادها بأن إلغاء القمة العربية لا انعقادها هو المفاجأة. وهي إذ تستبعد الإلغاء ما لم يطرأ حادث خطير غير متوقع يحمل سوريا على إعلان عدم استضافتها على أراضيها، فإن ما عدا ذلك هو مسار طبيعي لقمة ستنعقد، ويشارك فيها كل الدول العربية، وأخصّها صاحبة التأثير والدور الفاعل كالسعودية ومصر والأردن والكويت، من غير أن تتذرع بأسباب تحملها على الاعتذار عن عدم المشاركة. إلا أن القمة ستتأثر في واقع الأمر بمستوى التمثيل الذي سيقرّره الملوك والرؤساء العرب العازمون على التغيّب لدوافع مختلفة، إذذاك ــــ تبعاً لمغزاه السياسي ــــ يترجّح التمثيل بين وزير الخارجية ووزير دولة وسفير. ولحضور كل من هؤلاء دلالته. ولأن القمم العربية المتتالية نادراً ما اشترك فيها على مرّ السنين زعماء دولها الـ22، وغالباً ما انعقدت في خضم خلافات عربية ــــ عربية متفاوتة الأهمية، تبدو قمة دمشق ظاهراً استمراراً لسوابق مألوفة.
2 ــــ ينتظر أن تعكس الاجتماعات التي سيعقدها وزراء الخارجية العرب في 5 آذار المقبل و6 منه المنحى الذي ستسلكه قمة دمشق، وخصوصاً لجهة جدول الأعمال، وتحديداً طريقة مقاربة المشكلة اللبنانية في البيان الختامي للقمة. وهو أمر يحمل الجهات الحكومية البارزة على الاعتقاد أيضاً بأن الموقف الذي ستخرج به القمة عن لبنان سيكون صورة مشابهة ــــ إن لم تكن مطابقة ــــ للمواقف التي سبق أن خرج بها الوزراء العرب عنه في اجتماعَي القاهرة في 5 كانون الثاني المنصرم ثم في 27 منه. ورغم التباين في الرأي ــــ ولم تكن تعوزه أحياناً الحدّة ــــ انتهى بيان الجامعة إلى مبادرة حدّدت إطار التعامل مع الوضع اللبناني على أنه مشكلة داخلية يتعيّن على الأفرقاء المضي في حلّها، ويكون على الجامعة التوسّط لمساعدتهم على تذليل العراقيلّ.
على نحو مماثل، ينتظر أن تقارب القمة العربية المقبلة، بدءاً بالاجتماعات التمهيدية لوزراء الخارجية العرب، الأزمة اللبنانية على أنها ملف داخلي يخص اللبنانيين وحدهم، بحضّهم مجدّداً على تذليل العقبات التي تحول دون اتفاقهم الداخلي. مؤدّى ذلك أن المشاركين في قمة دمشق لن ينتهزوا فرصة انعقادها، للمرة الأولى منذ عام 1946 على الأراضي السورية، وفي ظلّ عزلة خانقة تطبق على نظام الرئيس بشار الأسد، كي يخوضوا في تصفية حسابات على صلة بالعلاقات الثنائية بين هذه الدول والنظام السوري. وهو أمر يستبعد، في رأي الجهات الحكومية البارزة، وضع القمة العربية في جدول أعمالها السلسلة الطويلة والملتبسة من العلاقات اللبنانية ــــ السورية: سواء في توجيه الاتهام إلى دمشق لتحالفها مع إيران في لبنان وتسبّبهما بتقويض حكومته الشرعية، أو في تسيّب الحدود الدولية وتدفق الأسلحة على حزب الله وتمويل الخلافات اللبنانية الداخلية والتحريض على فتنة مذهبية، أو في التدخّل بالشؤون اللبنانية والانحياز إلى فريق لبناني، أو في عرقلة انتخاب رئيس.
بل من غير المستبعد انضمام العرب الآخرين إلى وجهة نظر دمشق مما يجري في لبنان، على غرار اجتماعات القاهرة، بدعوة الأفرقاء اللبنانيين إلى التفاهم والتوصّل إلى تسوية سياسية سلمية، مع معرفة الملوك والرؤساء العرب بالدور السلبي الذي تضطلع به دمشق في لبنان وفاعليته في تعريض وضعه الداخلي للانهيار. ذلك أن الطريقة التي اتّبعتها الجامعة العربية في معالجة المشكلة اللبنانية ــــ على أهميتها وجدّيتها ــــ بدت أقرب إلى التعامل معها على أنها ملف مستقل في ذاته، منها على أنها جزء من أزمة علاقات لبنانية ــــ سورية متفاقمة. لمس المسؤولون اللبنانيون هذا المنحى في أكثر من مؤشر رافق اجتماعات القاهرة، تارة بالتعويل على وساطة قطر بين سوريا ولبنان أكثر منها بين سوريا والسعودية ما دامت هذه التزمت حتى الأيام الأخيرة التحفظ حيال دمشق، وطوراً من المناشدة المصرية المتكررة لسوريا مساعدة الجامعة على تخفيف تصلّب المعارضة الحليفة لدمشق، وأحياناً بتشجيع ضمني لـ«الدلع» السوري، إذ ترد دمشق ــــ وإن بمناورة باتت مألوفة وغير مقنعة ــــ بأنها قرّرت ألا تتدخل في الشأن اللبناني مذ أخرجت جيشها.
والواضح أن البيانين اللذين خرج بهما اجتماعا وزراء الخارجية العرب في 5 كانون الثاني و27 منه، عبّرا عن منحى كهذا. لم يتحوّلا إلى ما يشبه «مضبطة اتهام» مباشرة إلى سوريا لتدخّلها في الشؤون اللبنانية، بل رسما إطار تسوية محتملة بين اللبنانيين، وطلبا من دمشق المساعدة على حل المشكلة. وفي كل حال، دافع الاجتماع الثاني للوزراء العرب عن مبادرة الجامعة طبقاً للإجماع الذي حازته في الاجتماع الأول، دونما التوقف طويلاً أمام المواقف المتعارضة من تفسير بندها الثاني. وقد وقفت فيه دمشق على طرف نقيض من الرياض والقاهرة، وترك للبنانيين التفاهم على نسب تمثيل زعمائهم في حكومة الوحدة الوطنية.
3 ــــ رغم تدهور العلاقات السعودية ــــ السورية في الأيام الأخيرة، وإحجام الرياض عن تحديد موعد لاستقبال وزير الخارجية السوري وليد المعلم حاملاً دعوة الأسد الملك عبد الله إلى القمة، لن تخوض الرياض مواجهتها الفعلية من خلال الجامعة، ومن ثم القمة العربية. وهو ما أبرزه الدور المرن والمتساهل الذي اضطلع به وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل في اجتماعات القاهرة عند وضع المبادرة العربية. بيد أنه تحدّث بلهجة مختلفة لم تخلُ من الحدة والاتهام الضمني بعدما انتقل من زيارته غير المعلنة لدمشق إلى جولة أوروبية عبّر فيها عن غضب الرياض من نظام الأسد. ومع أن سلسلة المواقف السعودية والمصرية الأخيرة تعمّدت ربط الحلّ اللبناني بالقمة، فإن المطّلعين على الموقفين السعودي والمصري، تبعاً للجهات الحكومية نفسها، يدرجون حركته المناوئة لسوريا في سياق منفصل عن الجامعة. والمقصود بذلك الولوج إلى المواجهة مع دمشق من خلال العلاقات الثنائية لكل من هذين البلدين بسوريا.
يدفع ذلك إلى القول إن القمة لن تكون حتماً آخر مخاض الأزمة اللبنانية. بل ربما فاتحة مرحلة مختلفة منه.