جان عزيز
قد لا تكون مجرد مصادفة تاريخية أن تظهر المدمرة الأميركية قبالة الشواطئ اللبنانية، بعد نحو أسبوعين على اغتيال عماد مغنية. ونقطة التقاطع بين الحدثين، لم تعد غافلة عن أحد، لا بل قد تستدرّ حبراً كثيراً هذه الأيام، وهي كون مغنية بدأ شهرته وبناها نتيجة القول بتورطه في تفجيري مقر المارينز وقوة «دراكار» الفرنسية في بيروت، ذاك الأحد في 23 تشرين الأول 1983. مع فجر ذينك التفجيرين، بدأت مرحلة جديدة في لبنان، عنوانها انسحاب القوة المتعددة الجنسيات منه، بعد أسابيع قليلة على ظهور مدمرة أميركية أخرى يومها، تحمل اسم نيوجيرسي وبدء نشاطها «السلمي» بقصف بعض مناطق الجبل بمدافع من عيار 16 بوصة، أو 400 ملم.
ثمّة مماثلة كاملة بين المرحلتين، لا تقتصر على وجود المدمرتين. وثمّة فوارق وتطابقات، ضرورية تفهم ما كان، وتوقع ما قد يكون.
قبل ربع قرن كانت واشنطن مسرحاً لرئيس جمهوري آتٍ من عالم التمثيل إلى البيت الأبيض، عبر محطة حاكمية كاليفورنيا. وكان رونالد ريغان، الرئيس البسيط، حاملاً مشروع إنهاء الحرب الباردة مع موسكو، بعد عقدين ونيّف على احتمالها. ولم يرتكز مشروع ريغان على أكثر من مرتكزين بسيطين: مشروع سلام الشرق الأوسط، مآله ضمان مصالح إسرائيل، وبنية فكرية تبسيطية في إدارته، قوامها «الثلاثي الكاثوليكي»، أي يوحنا بولس الثاني في روما، وليش فاليسا على حوض سفن غدانسك، في الخاصرة السوفياتية الرخوة، وزبيغينيو بريجنسكي في البيت الأبيض.
بعد ربع قرن، لم يتغيّر المشهد كثيراً هناك. بدل الرئيس الممثّل، جورج بوش، الأقرب إلى الهزل، والآتي من إخراج القيد العائلي، ومن دفتر شيكات المجمع النفطي ـــــ الصناعي العسكري، عبر محطة حاكمية تكساس. ومع بوش، مشروع آخر لإنهاء الحرب الباردة الجديدة، مع «القطب العالمي الجديد»، الاسمه الإسلام. ومرتكَزا مشروعه هذا، فكرة بسيطة عن ديموقراطية في الشرق الأوسط الكبير، وبنية فكرية في «المثلث الفدرالي»، قوامها «المحافظون الجدد»، الذين يمثّلون تجاه الإسلام، تماماً ما كان يمثّله «الثلاثي الكاثوليكي» إزاء الشيوعية.
هذا في الدائرة الأوسع، في أميركا. أما الدائرة الوسطى، شرقنا الأوسط، فالمماثلة ليست أقل مصادفات ومفارقات. قبل ربع قرن كان جيش دمشق منكفئاً عن الأراضي اللبنانية أمام زحف إسرائيلي مباشر، مدعوم وداعمٍ في الوقت نفسه، لفكرة «سلطة مسيحية» تقدر على حكم لبنان واستقراره. بعد ربع قرن صار جيش دمشق خارج لبنان، نتيجة زحف غربي مباشر، مدعوم وداعمٍ لفكرة «سلطة سنيّة» قادرة على القيام بالوظيفة نفسها. وتكتمل هذه المصادفة ـــــ المفارقة، مع إظهار التدقيق لواقع أن سنّة اليوم، أقرب إلى موارنة الأربعينات ومطلع الثمانينات. وليست مبالغة الإشارة، كتتويج لهذه المماثلة، أن الانكفاءين السوريين، ارتبطا في شكل ما، باغتيال بشير الجميل سنة 82، ورفيق الحريري سنة 2005، في سياق تبادل الأدوار نفسه بين الموارنة والسنّة.
لكن الأهم في مماثلة الدائرة الإقليمية هذه، أن سوريا كانت يومها حليفة لموسكو، أي للقطب المستهدف بظاهرة ريغان. وكانت موسكو يومها قد ولجت مرحلة «الرجل المريض»، مع بريجينيف المترنّح، ومع خلافته المتعثّرة بين ثلاثي أندروبوف، تشيرنينكو وغورباتشوف.
بعد ربع قرن، ها هي سوريا حليفة طهران، أحد أبرز رموز «القطب الإسلامي» الجديد، والمستهدف بظاهرة بوش ومشروعه. ومع الفارق أن «برسيبوليس» الجديدة لا تبدو في حال وهن موسكو الثمانينات. وما عانته جيوش الأخيرة في كابول ووارسو، تبدو الأولى في حالة كسب كبير لما يقابله اليوم، وخصوصاً عقب سقوط الملا عمر وصدام حسين، على أيدي الأميركيين أنفسهم، وبواسطة أكياس جثث «الجي آي»، لا سواهم.
تبقى الدائرة الأضيق، الساحة اللبنانية، وهي الأكثر مفارقة بين المرحلتين. فقبل ربع قرن، كانت مدافع نيوجيرسي تدكّ مواقع وليد جنبلاط، المقابلة للواء ثامن بقيادة ميشال عون...
يبدو أن الرجلين قد تعلّما الكثير من تلك التجربة. لكن الظاهر أن كلّاً منهما خرج بخلاصات وعِبَر مغايرة للآخر.
المهم أن قيادة الأسطول السادس نظّمت قبل ربع قرن برامج ترفيهية لجنودها. في أحدها جاء الكوميدي الأميركي الشهير بوب هوب إلى سواحلنا، وقف على متن نيوجيرسي، مستنداً إلى أسطون البوصات الـ16، قائلاً: «قيل لي إن هذه مهمة سلام، ما جعلني أتساءل، كيف تكون إذن مهمات الحرب». ضحك الجنود يومها، قبل أن يدركوا أن الضاحك أخيراً يضحك جيداً. وأنه في الوقت الضائع بكى اللبنانيون ربع قرن، بلا جدوى، غير الكارثة في المسار والعبثية في النتيجة.