كامل جابر - جوان فرشخ بجالي
امرأة بريطانية عاشت في لبنان في القرن التاسع عشر، وذاع صيتها بعد أن تدخلت في الشؤون السياسية الداخلية، وحرّضت الشعب على أمرائه. الليدي ستانهوب، فصلٌ منسيٌّ من تاريخ الوطن، لا يتذكره إلا قصرها المهمل والمهجور في بلدة جون

على غرار حياة «العواصف» والغموض التي عاشتها الليدي ايستر ستانهوب، تجد قصرها المتربع على ربوة عند الجهة الشمالية الشرقية لبلدة جون (إقليم الخروب)، في محلة «ضهر الست»، طريح عواصف الطقس هو الآخر، التي سبّبت مطلع الشهر الجاري، دكّ قسم كبير من جداره الغربي. وتنذر أحوال القصر، الذي تغيب عنه أعمال الصيانة والترميم والتأهيل، بمزيد من الدمار، إذ يبدو واضحاً التشقّق في الجدران الآيلة كذلك إلى السقوط، إن لم تبادر أي جهة محلية أو رسمية إلى تدارك الأمر.
يذكر أنه عندما صنّف الوزير السابق إلياس حنا بقايا القصر على لائحة الجرد العام للمواقع الأثرية والتراثية، وكُلّف بترميمه وتحويله إلى متحف، لاقى القرار ترحيب بلدية جون، وخصوصاً بعدما مثّل القصر والضريح نقطة جذب للعديد من الوفود الأجنبية، وعامل استفادة لعدد من أبناء جون. إلا أن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل حتى اليوم.
بين عواصف السياسة والارتباط «المخابراتي» الكثير من الغموض الذي كلّل أحلام السيطرة وحب المغامرة لدى الليدي إيستر لويس ستانهوب (1776ــــ1839)، باكورة أولاد الكونت شارل وابنة أخت وليم بيت رئيس وزراء إنكلترا في ذلك العصر. عاشت الليدي في بدايات حياتها في بريطانيا، وكبرت في مجتمع يدور الشرق والاستشراق في فلكه. فمن مغامرات أصدقاء لها في الكشف عن كنوزه الدفينة إلى الأساطير التي تُحكى عن ملوكه ومدنه الضائعة، وأخبار عن عالم ليس فيه للمرأة دور صدارة... أخبار حفّزت الشابة التي كانت ترأس مآدب عشاء خالها رئيس الوزراء إلى مغادرة بريطانيا والتوجه إلى الشرق «لاكتشافه». ولم ينقصها المال. فالعرش البريطاني كان قد أعطاها مبلغاً سنوياً يقدر بـ1200 جنيه إسترليني حتى مماتها، وكان يفسّر ذلك كعلامة شكر لاهتمامها بالمآدب الدبلوماسية!
غنية جداً، وقوية جداً، كانت تلك السيدة البريطانية التي تزور أمراء الشرق وحكامه مرتدية الزي التركي الذكوري، بعد أن غرقت ملابسها قبالة السواحل اليونانية. عشقت الشرق وأساطيره، وكسبت احترام قادته لشجاعتها في مجابهة أخطاره. فهول قبائل البدو المسيطرة على طريق تدمر لم تكن حاجزاً أمام زيارتها لمدينة عُدّت ملكتها مثالاً لهامن القاهرة إلى الشام، ومن القدس إلى صيدا، جالت الليدي ستانهوب لمدة 8 سنوات حتى حطّت رحالها سنة 1818 في جون. قرية تشرف على صيدا، وتقع على مرمى حجر من الجبل الذي يعيش انقسامات سياسية جمّة داخل الطائفة الدرزية، وفي منطقة تعيش تناحراً سياسياً بين الباب العالي وحكام مصر. هناك، قرّرت السيدة التي أطلق عليها سكان المنطقة اسم «الملكة إيستر» أن تحوّل بقايا دير قديم إلى قصر لها، بعد أن تقرّبت من عبد الله باشا والي عكا الذي منحها سنة 1821 الموافقة على الإقامة في هذا المكان، بموجب عقد إيجار من رهبان دير المخلّص. رممت الليدي البناء، ونظّمت حدائقه، وأضافت إليه أجنحة وممرات واسطبلات ودهاليز لكي تحتمي بها أيام الحروب.
وكان القصر يتألف من جناحين: جناح «الملكة» المبني من حجارة كبيرة، وبشكل هندسي جميل، تتوزع في أرجائه غرف كثيرة موزعة بين خاصة وأخرى للضيوف وللموظفين. وتحت هذا الجناح دهليز الإهراءات. أما الجناح الثاني، فخُصص للخدم مع غرف نوم للرجال والنساء ومطبخ للمؤونة. وشيّدت الملكة حول قصرها سوراً جعلت له مدخلين؛ أحدهما خلفي يستعمله كل من يدخل القصر سراً. ويُحكى أنها أعدّت في دهاليز القصر غرفة كانت تُستعمل مخبأً للهاربين الذين كانت تؤويهم، وخصوصاً معارضي سياسة الأمير بشير الثاني، وهؤلاء كانت تحرّضهم على الثورة عليه بعد أن هدّد أكثر من مرة بطردها.
هكذا صار قصرها يشبه القلعة المحصنة، ويضاهي قصور الأمراء والحكام في ذلك العصر، ووفّر لصاحبته الحماية لتحقيق أحلامها وطموحاتها، وكان يزورها فيه كل المستشرقين. ففي سنة 1832 زارها الشاعر الفرنسي لامارتين «وخلّد» اللقاء والأحاديث التي دارت بينهما في فصل خاص من كتابه المعروف «رحلة إلى الشرق». وزارها كذلك الناشر الفرنسي الشهير، دنيس ديدرو، صاحب الموسوعة الفرنسية. وبقيت سيدة القصر على علاقة وثيقة بالعرش البريطاني، الذي كانت تُنهكه بمطالبها المالية المتكررة. وكانت «الملكة إيستر» قوية النفوذ في محيط قرية جون، حتى إن أهل القرى ساروا «بزعامتها» إذا ما طلبت منهم، وهذا ما حثّ والي مصر إبراهيم باشا على عقد اتفاق معها خلال حملته على لبنان لضمان بقائها على الحياد.
كان لتأثيرها على الحياة السياسة رد فعل سلبي عند الطبقة الإقطاعية التي بدأت تبتعد عنها شيئاً فشيئاً، حتى بدأت الوحدة تحوم حول قصر الليدي ستانهوب، التي أصبح شغلها الشاغل إدارة خدمها الذين كان يتخطى عددهم الثلاثين. وبعد أن أنفقت ثروتها من دون حساب، بدأ «الفقر» يطرق بابها، ولم يعد لديها ما يكفي لدفع الأجور، فأصبحت صعبة المراس، ساخطة على الحياة. ودفع هذا العاملين عندها إلى اعتبار تحفها وأثاث قصرها بمثابة أجورهم، فكانوا «يسرقونها».
توفيت الليدي ستانهوب وحيدة في قصرها، بعد إصابتها بداء السل، في 23 حزيران 1839، فحضر قنصل إنكلترا، السيد مور، يرافقه الأب وليام طومسون إلى جون لدفنها، وعثرا على جثتها في غرفتها، وكان القصر المنهوب مليئاً بالخردوات. لُفّ جثمانها بالعلم الإنكليزي، ودُفنت في منتصف تلك الليلة في حديقة قصرها، في القبر الذي كانت قد بنته لنفسها.
عُرفت تفاصيل حياة الليدي ستانهوب بعدما نشر طبيبها الشخصي كتاباً عنها، مرتكزاً على أحاديثهما. ولكن ما لم يأتِ أحدٌ على ذكره بعد هو الدور الحقيقي الذي لعبته في السياسة الداخلية والخارجية آنذاك. فمعروف أن تلك السيدة كانت عضواً فعّالاً في الاستخبارات البريطانية، من دون أن تُعرف طبيعة الدور الذي طُلب منها لعبه.



دفن وحرق

كانت ذكرى وفاة الليدي ستانهوب الـ165، في 23 حزيران 2004، مناسبة لاستعادة سيرتها في الأوساط السياسية. فقد أقامت السفارة البريطانية احتفالاً لنثر رمادها قرب ضريحها في جون، بعدما كان قبرها قد نُبش سنة 1988 من جانب سارقين طامعين «بكنوز دفينة في داخله». ولكن بالطبع لم يعثروا على شيء، وتركوا القبر المنبوش على حاله، ما دفع أبناء جون إلى جمع رفاتها وتسليمه إلى السفير البريطاني، الذي أعاد دفنها في مقرّه الصيفي في عبيه.
فصول القصة لم تنته هناك. فالمقرّ الصيفي عُرض للبيع، وبدأ التساؤل عن مصير الرفات، إلى أن تقرّر حرقه بموافقة عائلة ستانهوب. وقد أتت هذه النهاية «خاتمة غريبة لحياة كانت مليئة بالمغامرات»، كما قال السفير البريطاني في لبنان، لوي وات، حينما نثر رمادها في حديقة قصرها في جون، خلال احتفال رسمي شارك فيه أحد أقربائها، الشريف وليام ستانهوب.