جان عزيز
نادرة هي المرات التي ساد فيها الوئام والتناغم بين المرجعيتين المسيحيتين، الروحية والزمنية. لكن التباين الحاصل راهناً بين بكركي والرابية، قد يكون الأكثر مدعاة للبحث والتدقيق.
تاريخياً، يقول الكثير من العارفين إن ثنائية الروحي والزمني لدى مسيحيي لبنان، رافقت بدايات تشكّلهم السياسي والمجتمعي. وقد لا تكون مصادفة أن البنية الكنسية الأولى للموارنة، أواخر القرن السابع مع بطريركهم الأول يوحنا مارون، تلازمت مع اختيار نسيبه إبراهيم مسؤولاً دنيوياً. كأنّ التوجّس من التنافس بين الرأسين كان حاضراً منذ الولادة. بعدها لم تخل حقبة من هذا الصراع المختلف الحدّة والعلانية، حسب الظروف والاعتبارات والأشخاص. حدث اليعقوبية في جبّة بشري في القرون الوسطى كان جزءاً من هذا الصراع، ومثله ثورة الفلاحين يوم قيل إن الإكليروس تلطّى خلف طانيوس شاهين لضرب الإقطاع، وصولاً إلى يوسف بك كرم ومراسلاته الجريئة إلى رأس كنيسته، محمّلاً إيّاه المسؤولية التي ثبت صوابها تاريخياً.
واستمرت الثنائية التنافسية حتى قيام الدولة والاستقلال وما بعدهما. قد يكون إلياس الحويك، مؤسس لبنان الكبير، الاستثناء الوحيد، لأنه اختصر الزعامتين. تماماً، ربما، كما كان حال بكركي في سدّتها البطريركية الحالية، بين عامي 1990 و2005، أي في ظل تصحير القيادة السياسية للمسيحيين. أما خارج التأسيس الأول مع الحويك، والأحادية القسرية مع البطريرك صفير في تلك الفترة، فكانت مقولة «إطلاع العشب على درج بكركي»، ثابتة لا تغيب عن علاقة المرجعيتين.
لماذا هذا المسار التنافسي الدائم؟ الأسباب قد تكون كثيرة، متنوعة ومتقابلة. البعض يقول إنه بعض من ثمن «الحرية الشخصية المسيحية»، حيث لا امتثال ولا تماثل. والبعض يقول إنها تركة الفكر الغربي لدى المسيحيين، والفرنسي منه تحديداً، لجهة التباس الثقافة بين فصل مؤسسة الكنيسة عن مؤسسة الدولة، أو فصل الدين عن المجتمع. وبعض ثالث يذهب أبعد إلى قراءة تبريرية في مواجهة الأحادية الدينية والدنيوية للفكر السياسي في الإسلام. كأنما المسيحيون في صراعهم مع مرجعياتهم الدينية يعطون في شكلٍ لاواعٍ نموذجاً لشركائهم المسلمين عن تطلّع علماني منشود ما. علماً بأن المقارنة مغلوطة تماماً، حيث لا مؤسسة دينية في الإسلام. وقد يقول بعض رابع إن المسألة تعود إلى ازدواجية السرعة في تطور الفكرين، بين كنيسة لا تزال ترى أنها أسّست الدولة، وعلمانيين يخشون على مستقبل الدولة من العلّة الدينية. ولا ينسى بعض أخير أن تكون المعضلة في ازدواجية التنظيم لدى كل الجماعات التي واجهت مركزية سلطة «الخلافة» في المنطقة، ومنها موارنة لبنان ومسيحيوه، وهي ازدواجية غالباً ما ساعدت على امتصاص النكبات والأخطاء وتخطّي العواصف عبر تناوب الأدوار والمواقع.
المهم أنه في ظل تلك المراحل الطويلة من الثنائيات، وخصوصاً بعد الاستقلال والميثاق، كان خط التماس الصدامي بين بكركي والبطريرك السياسي، موقعاً دائماً على كيفية إرساء معادلة محدّدة: كيف يضمن المسيحيون في لبنان انفتاحهم على محيطهم الأقرب والأوسع، من دون أن يخسروا خصوصيتهم الجماعية، وكيف يحافظون على هذه الذاتية، من دون أن يجرّوا على أنفسهم استعداء ذينك المحيطين؟
وهو ما يمكن اختصاره بمعادلة الحضور المسيحي، الذي هو مزيج الوجود والرسالة. فالوجود شرطه الذات. أما الرسالة فشرطها الآخر. وفي المعايرة الدقيقة للمقتضيين الاثنين يتأمّن الحضور المسيحي. فلا رسالة من دون الذات، ولا معنى للوجود من دون الآخر. هكذا على مدى ستة عقود من عمر لبنان الميثاق، كانت هذه المعادلة الدقيقة والصعبة، في صلب كل الازدواجيات الروحية ـــــ السياسية، وسبباً للتباين بين «البطريركين». فحين يجنح السياسي نحو الانفتاح على محيطه، كما كان فؤاد شهاب، يقف الديني لموازنته، ما يدفع الكنيسة إلى مزايدة مسيحية. وعلى العكس، حين ينكفئ السياسي إلى ذاتية قصوى، كما كان كميل شمعون آخر عهده، يميل الكنسي أكثر نحو الانفتاح على محيطه، ليعيد التوازن المطلوب إلى معادلة «الحضور». وهكذا كانت الثنائية متلازمة، لكنها ضرورة مفيدة أيضاً.
للمرة الأولى، ربما، في تاريخ المسيحيين في لبنان، تبدو ثنائية الديني والزمني، الكنسي والسياسي، في غير محلها، من دون معادلة توازن، وبالتالي غير ضرورية ولا مفيدة. إذ للمرة الأولى في التاريخ السياسي لمسيحيي لبنان، تبدو زعامتهم الزمنية في موقع من تخطّى جدلية الذاتية والمحيط، الهوية والانفتاح، الجماعة والشراكة. للمرة الأولى يبرز زعيم سياسي يملك الشرعية المسيحية بنسبة لم تتوافر لأي زعيم آخر من قبل، ولا يهدد بالعزل من وجدان الجماعات الأخرى، ولا بالاستعداء من قبل الامتداد العربي لهذا الوجدان. للمرة الأولى ثمّة ميشال عون، معه المسيحيون بأكثريتهم، واللبنانيون بأكثريتهم، ولا يعاديه عبد الناصر المعاصر ولا أبو عمار المرحلة، ولا أي مثيل راهن للاثنين، ما يجعل السؤال محرجاً مربكاً: ما الذي يوحّد ثنائية بكركي ـــــ الرابية في هذا الظرف إذاً؟ هل المسألة شخصية حقاً؟ زوار القاصد الرسولي ينقلون الكثير من جوانب الجواب، غير الصالحة للنشر، لكنها تعزّز السؤال: هل المسألة شخصية؟