مارسي نيومان *
سرطان الثدي هو من أكثر السرطانات شيوعاً بين اللبنانيات، ويصيب بالدرجة الأولى النساء دون الخمسين من العمر. وتشير الدراسات التي أجراها المركز الطبي التابع للجامعة الأميركية في بيروت إلى أنّ معدلات الإصابة بسرطان الثدي أعلى مما هي في الدول الصناعية، ما يقود البعض إلى الاعتقاد بأنه يجب إخضاع العامل البيئي، من بين عوامل أخرى، إلى المزيد من الأبحاث بغية دراسة الأسباب الكامنة وراء معدلات الإصابة المرتفعة. وفيما تناولت دراسات عدة مسائل تتعلق بالنساء اللواتي يتعايشن مع المرض، بما فيها العلاج التقليدي السام وكيفية تأثير الجراحة والإشعاعات والعلاج الكيميائي على أجسادهن، نادراً ما تطرقت معظم الأبحاث التقليدية التي تناولت الموضوع إلى تأثير البيئة في ارتفاع معدلات الإصابة بكل السرطانات عالمياً.
ففي الولايات المتحدة، مثلت العلاقة بين التلوث والسرطان وأرباح شركات الأدوية محور صراعات خلال السنوات العشر المنصرمة.
وقد قامت بالخطوة الأولى مصابات بسرطان الثدي فكشفن عن العلاقات بين هذه المؤسسات القوية، ولا سيّما كيف أن معدلات الإصابة الأعلى تسجل بين الفقيرات والأفارقة الأميركيين مقارنة بنظيراتهن البيض من الطبقة الوسطى. والأميركيون الذين يعيشون بجانب محطات الطاقة النووية أو القواعد العسكرية أو الشركات التي تلوث المناطق المحيطة بها يعانون معدلات إصابة بالسرطان عالية. إنّ مبيدات الحشرات، والهورمونات (تحديد النسل، المعالجة باستبدال الهورمونات) والحقول الكهرطيسية، والإشعاعات ومركبات بيفينيل العديدة التكلور (PCBs) هي التي تُحدِّد جداول الإصابات بالسرطان عالمياً أكثر بكثير من أي عوامل وراثية.
إلا أن التخريب البيئي الذي يسببه الأميركيون لا يقتصر أثره على الأرض الأميركية. فقبل الغزو الأميركي للعراق عام 1990، كانت الإصابات بالسرطان لا تكاد تُسجّل في العراق، لكنّ الأورانيوم المخصب الذي استخدمه الجيش الأميركي، بالإضافة إلى الحظر الذي منع الأدوية من دخول البلاد، بما فيها أدوية علاج السرطان، قاد الفنانة العراقية نهى الراضي إلى الكتابة عام 1994: «يبدو أنّ الجميع يموتون من السرطان. فكل يوم يسمع المرء عن إصابة أخرى أو عن صديق يحتضر. يبدو أنّ أكثر من ثلاثين في المئة من العراقيين مصابون بالسرطان، ويعاني أطفال كثر سرطان الدم. لن يرفعوا الحظر عنا أبداً».
توفيت الراضي عام 2004 في بيروت نتيجة مضاعفات سرطان الدم وعلاجه قبل أن يتسنّى لها الاطّلاع على البحث الذي بيّن العلاقة بين الذخائر الأميركية والسرطان في العراق. وفي السنوات الأخيرة، تأكدت الآثار الطويلة الأمد للأورانيوم المخصب على الصحة العامة، وذلك على يد أشخاص مثل المتخصصة العراقية بعلم الأورام منى كماس التي درست تأثير المدفعية الأميركية على المدنيين العراقيين، فأثبتت أنّ معدلات الإصابة بالسرطان في جنوب العراق زادت خمسة أضعاف. غير أنّ المجمع العسكري الصناعي الأميريكي لا يستخدم المسرطنات فقط في الحرب، بل يستعملها أيضاً لما يسميه «السلام» في مجال النشاطات المدنية إبّان الحرب. وقد ظهر أحد أشهر المبيدات المسرطنة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما استخدم الجيش الأميركي طائرات بي 25 لرش المزارع الأميركية بمادة د.د.تي المبيدة للحشرات والهوام. وتسبب هذه المادة خطراً على النساء بشكل خاص لأنها تقلّد الهرمون النسائي، أي الأستروجين، ما أن تدخل الجسم. فكما بالنسبة إلى كل الهيدروكاربونات المكلورة، تصبح هذه الكيميائيات ذات تأثير شبيه بالأستروجين في الجسم، فتعطل جهاز الغدد الصمّ.
ولا يقتصر تأثير هذه المواد على عمال الزراعة، بل إنه يصيب آخرين أيضاً لأنها تتسرب إلى التربة ومياه الأمطار والضباب والرياح. ومع العولمة الاقتصادية، توطدت العلاقة بين الصناعات البتروكيميائية والصيدلية والمؤسسة الطبية، وأصبح أثرها يطال الجميع على الكرة الأرضية.
وبطريقة مماثلة، فيما ندرك النتائج المباشرة للاعتداء الإسرائيلي على لبنان، لم تُدرَس النتائج الطويلة الأمد من زاوية السرطان ومخاطر بيئية أخرى أيضاً. فشأنها شأن المبيدات، لا تؤثر بقايا المسرطنات من الذخائر التي تسربت إلى التربة والهواء ومياه الأمطار فقط في الناس قاطني القرى التي قُصفت، بل تستطيع أيضاً أن تؤثر في سكان المنطقة كلها، مثلاً عبر المأكولات النامية في التربة التي أفسدتها الملوثات المتأتية عن الذخائر. وبالإضافة إلى ذلك، اللبنانيون غير محصنين من آثار المجمع الصناعي الطبي الأميركي التي يجب أن يخضع لها المصابون بالسرطان من أجل تلقي علاج لا يشفي، بل يضيف بضع سنوات إلى الحياة لا أكثر. إنّ مقاومة كلٍّ من المواد الكيميائية والطب تمثل وجهاً مهماً من أوجه مقاومة الهيمنة الأميركية على المنطقة.

* أستاذة وباحثة في جامعة بويزي ــ أيداهو