أنسي الحاج
ذَهَبَ ولم يعد
كان هناك بلدٌ لأصحابه، ذَهَب ولم يَعُد.
يمكن قول هذا عن أماكن كثيرة: فلسطين، العراق، لبنان، القارة الأميركيّة بأسرها، بعض بلدان البلقان، وحتى، مع شيء من التلطيف، ورغم ظواهر الاندماج، بلدان ومقاطعات في أوروبا الغربيّة.
أين تذهب الأوطان؟ أحياناً يذهب الشعب، كحال إبادة الهنود الحمر، أو تهجير الفلسطينيّين. أحياناً تذهب الأماكن، خِفْيَةً، قسطاً بعد قسط، أو دُفْعة واحدة.
لا يزال هناك لبنانيّون في لبنان. إذا سألتَهم، يستطيعون التعرّف على مدنه وقراه، وعلى بيوتهم وقبور آبائهم، لكنّك تشعر من عيونهم بأنهم لم يعودوا واثقين. مَقْتَلةٌ وراء مَقْتلة، مهاجرون وراء مهاجرين، عصابات فوق عصابات، عملاء فوق عملاء، فقراء فوق فقراء، أحداثٌ تُسجَّل كاذبة، زعماء يحرّكهم الخوف من القتل أو تسديد فواتير دُوَليّة، فضلاً عن الغباوة الطبيعيّة: لم يعد هناك مكان إلاّ أُصيب.
تعدّدت الوسائل والقاتل واحد. حتّى لو تبيَّن أنه اثنان أو عشرة، القاتل واحد. ما دام القتيل واحداً، فالقاتل واحد، ولو كانت عناصره متعادية. منذ ثلاثين سنة والتحقيق جارٍ، والقاتل يُغيّر لبنان.
كان هناك بلد لأصحابه، ذَهَب. يُرجى ممّن يعرف عنه شيئاً أن يبلّغ المسؤولين عنه قبل أن يختفوا بدورهم، بإذن الله.


حياتُكَ سَهْم
عرفتُ توقاً إلى الحريّة، لم أعرف الحريّة.
شيئان يستحقّان الدفاع عنهما: الحبّ والحريّة. الأوّل لم يجئ بفرحه إلاّ على حساب عمقه، والثانية أرض دافعتُ عنها ولم أشعر بها تحت قَدَميّ.
لا الحريّة السياسيّة، ولا حريّة المعتقد والتعبير، فهما أضعف الإيمان، بل تلك اللاصقة بخبايا الحنايا، المفرّجة بنورها أو الكابسة بظلمتها، الحريّة النفسيّة، الملاءة المنفتحة بلا نهاية... تنتزعها لحظةً فيُشمّس صدرُك، وما هي حتّى يُوَقْوِق غرابُ الضمير. السراح الدائم محال. السماء لا تصفو أكثر من ثواني حلم. الدم مجبولٌ بالعَكَر. مَن يضحك الجمعة يبكِ الجمعة نَفْسَها. التمتُّع بتلك اللحظة يُفسده في تلك اللحظة شبح ما بعدها. أصبحت هي في لحظتها، ما بَعْدها. إنسانٌ فَقَدَ أجنحته لا بعد السقوط بل منذ الولادة. وحتّى لو انجلى السبب لما تغيّرت النتيجة. وإذا غاب غراب الضمير يحضر الطمع، الحسد، البغض، القلق، دائماً عدم الرضى.
لنفترض بلغتَ تلك الحريّة وعشتَها ملء الصميم، ولم يُنغّصها عليك شيء، فإلى أين تمضي بها؟ أكثر؟ وأكثر؟ وبعد؟ إلى الصفر؟ إلى استعذاب القيود؟ أم إلى جرعة زائدة تُنهي كلّ شيء؟
مجرّد افتراض. هذه المساحة الطوباويّة لم ترَها عيني ولا سمعتها أذني إلاّ في أحلام اليقظة. عرفتُ توقاً إلى الحريّة ولم أعرف الحريّة. هل الشوق أجمل ما في الأمر؟ يقال ذلك. عجزاً، تبريراً للعجز يُقال؟ لا، فكثيرون ممّن وَصَلوا يقولونه أيضاً. حياتكَ سهم مشدود، إذا أطْلَقَتْهُ القوس فلا تَسَلْ عن مصيره... احتفظ بصورته طائراً في الهواء، لا تنظر إلى وقوعه.


غزلان الشفافية
شاعرة صديقة تُبْصر منامات تتحقّق. وعندما تكتب لا تُلحّق كلماتُها أحلامَها. أحياناً ترهقها مناماتُها كما ينوء الرائي برؤاه. ورغم هذا العبء، عندما ألتقيها أرى وجه أحلام يَضْحك.
أقارن بين حلمي المتعمَّد وأحلامها المتدفّقة، بين التشبّث والسليقة. حلم النوع الأول يُدار بالعقل، يُرَشُّ رَشّاً على الوعي. أحلام النوع الثاني بيانات الغيب.
أشخاص مثلها وسطاء بين الواقع والقوى الخَفيّة، ليسوا مثلنا. إنّهم فريسة لنور نجهله ولتيّارات مغناطيسيّة لا تعرف طريقاً إلى هياكل أجسامنا الغليظة. أشخاص الشفافيّة هؤلاء يعيشون بيننا كما تعيش الغزلان في غابات الوحوش، تحت رحمة مشاعر وأفكار تتقطّر فيهم كما تتقطّر الشمس في عنب العنقود. ليست أحلاماً ما يرونها بل أجزاء من جداولهم النقيّة يوم كانوا ينابيع أو ملائكة يستحمّون في الينابيع. إنّهم ثُريّات النوم، لا تستمعوا إليهم إلاّ حين تنوون المجازفة بالنظر وراء المرآة.


بعد فوات الأوان
في بارقة وعي أخيرة خلال القفزة الأخيرة، يدرك المنتحر أنّه خُدع. لم تخدعه الحياة (فهي على الحياد) بل خدعه الانتحار.


على أطلال الراديو
ننسى الراديو، الذي أمسى ـــــ حَرْفيّاً ـــــ أثراً بعد عين.
ذلك الحجاب المغناطيسي، رسول الدنيا والآخرة، عشير المستوحدين عهدَ الفقر المعقول، والحرمان الرومنتيكي، مؤنس سجناء الطَّفَر ومخيّلات الأولاد يوم لم يكن المنزل يسمع غير أصوات الأهل وزعيق الجيران، ولا شاشة تُرى فيه سوى الغسيل المنشور والقطط الانتهازيّة، وإذا أشفقت الصدف، شبابيك جاراتٍ يُمَكّنَّ النظر أحياناً من الارتشاف.
كنتُ أذْهَل بصوت حبّوبة حدّاد تحكي لنا، نحن الصغار، حكاية الأسبوع من الإذاعة اللبنانية. «كان يا ما كان في قديم الزمان» ليست مجرّد معادلة لفتح الخيال والحواس جميعاً بل هي أيضاً تعويذة تُلاشي عالماً وتدشّن عالماً آخر في ثانية. وحين تنهي الإذاعة برامجها كنتُ أبقي رأسي ملتصقاً بشاشة الراديو (جهاز وستنغهوس القديم الكبير الهيئة الأشبه بجهاز «صندوق العجائب») أسكر بخشيش الهواء، هواء مختلف، عجيب، هواء العالم بأسره يموج برسائل فوق اللغة، رسائل الريح، تحيّات كائنات تائهة، وربّما تهديدات لكنّها تُخدّر وتستدعي الإدمان.
يتلقّى الدماغ ذبذبات الصوت كلّ حسب انفعالاته وتركيبه العضوي، وإجمالاً يؤخذ الجسد كلّه انطلاقاً من الأذن. الأذن تَعشق قبل العين وقبل اللمس وبَعْدهما. إنها مركز غزير التوليد. الأذن مَصْنَع الأجنحة.
كان الراديو ذروة التخييل. كلمة وصوت، تلك خَلْفيّة الروايات الدينية. اللّه لم يظهر لرجاله بل أسمعهم صوته لأن صورته تَحرق. التلفزيون معاشرة عارية، ومؤالفته اجترار. أفضل ما في ذلك سقوط الأقنعة وأسوأه الابتذال. العين تأكل وتَرمي. «العين بَغيّ» يقول مَثَل إنكليزي.
هناك على الشاشات مذيعات (خصوصاً مذيعات) يَجْمعن بين الشكل الحَسَن والصوت الآسر. كأنهنّ حلقة الوصل بين صوت الراديو الآتي من السَّحَاب ووجه التلفزيون المُطلّ من الغرفة. هذا المزيج يحتاج إلى تعزيز، إلى أن يصبح قاعدة. جَمْع العمودي إلى الأفقي.
السرّ هو الخيال. حتّى الخبر لا يُحرّك إذا لم يشغّل الخيال. خطفت السينما الدور من المسرح دون أن يبكي كثيرون على المسرح لأن السينما قامت على الخيال. ما يجب أن يفعله التلفزيون حتّى لا نظلّ نبكي على أطلال الراديو.


أكواريوم
عندي أكواريوم صغير تعيش فيه بضع سمكات ملوّنة. هديّة عزيزة، دافئة على مائها. ما إن دخل بيتي حتّى تولّاني الخوف على كائناته، وصرت أعتبر يوميّات إطعامها برهاناً على حناني.
ما هذا. يُخانق المرء سوريا وإيران وأميركا وإسرائيل وينفطر قلبه على سمكة. ما هذا. «أتاري» كلّها ألفاظ. ما إن نشعر بأننا نعطي الحياة لشيء أو لكائن حتّى نظنّ أننا مسؤولون عن الحياة كلّها.
ما هذا...


اعذرني
يوقظ جمال هذه المرأة ينابيع جذور بعيدة، شبيهة بما يحرّكه الغناء الفولكلوري في النفس. إن ما نعشقه في الجمال هو الحنين الذي يبعثه فينا. الجمال الأكثر جاذبيّة هو الذي كأنّه يقول بحياء: اعذرني على جمالي.


دعوة
بناء علاقات لا سابق لها. نوعٌ يكتشف جِدّته في أثناء تكوُّنه. شيءٌ لم يُسمَّ بعد. مع شريكة، شريكات مجنونات. الاستناد إلى المعلوم كبديهيّات فقط. عدم الاكتراث إلاّ بالحَذَر الصحيّ. ما تبقّى قاعدتُه الحبّ.
حبّ روحه الرغبة، وهاجسه الإمتاع. تضليل الغيرة. مكافحة التملُّك بواسطة الكثرة، بالتنوّع. عالم لا يختلف فيه الأخذ عن العطاء. أقول «حبّ» ولكنّه شيء آخر، أكثر من «هذا» الحبّ وأخَفّ من «هذا» الحبّ. لا يحتفظ من الحبّ المتداول إلاّ بالانجذاب، الإغراء، الإعجاب، نيّات البَهْر. وبالانوِهابِ الكُلّي في لحظة النسيان، أو بالنسيان الكلّي في لحظة الانوهاب.
تَرْكُ ما قيل لنا، ما أُمرنا به. نَفْضُ الرماد من أدمغتنا. صنْع عناصر مجهولة، حُرّة، عامرة بالرهافة متدفّقة بالسخاء.
نوعٌ يُغيّر الحياة.