طرابلس ــ عبد الكافي الصمد
لم يسبق أنْ شهد شهر كانون الثّاني انحباساً وانقطاعاً في تساقط الأمطار مثل هذه السنة، وبات «فحل الشتي»، وهو الوصف الذي يطلقه المعمّرون في المناطق الجبلية على هذا الشهر، اسماً على غير مسمّى، وهو ما دفع أحد المسنّين إلى التعليق بظرف: «يبدو أنّ كانون صار بدو فياغرا حتى يشتّي!».
ولم ينبع هذا التعليق التبسيطي والمشوب بالقلق من فراغ، بل أتى بعد انقضاء أكثر من أسبوعين من الشّهر المذكور، من غير أن تشهد أيّامه تساقطاً للمطر أو للثلج، على غير ما درجت العادة طيلة العقود الأخيرة، بل حلّ بدلاً منهما انخفاض غير مسبوق في درجات الحرارة، مترافقاً مع مناخ جاف تراوح رطوبته بين أربعين وخمسين درجة مئوية، مما فرض صحواً وصفاء تامّين، ووفّر الأجواء الملائمة لهبوب موجة صقيع وجليد ضربت مختلف المناطق اللبنانية، تسبّبت في وفاة بعض الأشخاص، وألحقت أضراراً كبيرة في البيوت الزّراعية المحميّة، قُدّرت بملايين الدولارات، في سابقة لم يعهدها لبنان بهذا الشكل منذ أواسط الستينيات، وفق ما تؤكّده أغلب التقارير المتعلقة بأحوال الطقس وتبدّل المناخ في لبنان.
إلا أنّ أكثر ما بات يقلق المواطنين الآن، خصوصاً المزارعين منهم، هو أنْ يُسهم تراجع نسبة سقوط الأمطار وتساقط الثلوج هذا العام، في التأثير سلباً على مخزون المياه الجوفية والينابيع والأنهار خلال الصيف المقبل، وهو ما قد يؤدّي إلى تناقص كبير في مياه الري أو الشفة لاحقاً، وقد يؤدي إلى قيام نزاعات، إضافة إلى ما سيتركه من تداعيات على القطاع الزّراعي برمته.
رئيس مصلحة الزراعة في الشّمال معن جمال أوضح لـ«الأخبار» أنّ «معدل سقوط الأمطار العام، أو معدل السنة الماضية، لم نصل إليه بعد في لبنان حتى الآن، حسب النّشرات والتقارير المتعلقة بهذا الخصوص، لكن نتمنى أن تمطر في الأيّام المقبلة التي لا يزال متاحاً فيها ذلك»، مبدياً خشيته من أنّه «إذا لم تمطر فسيكون ذلك بكل تأكيد مؤشّراً سلبياً إلى ما سينتظرنا في أشهر الصيف المقبل».
ويعزو خبراء الزراعة والبيئة ظاهرة الجليد والصقيع التي تضرب لبنان إلى «تغيّر حالة المناخ العالميّة واضطرابه بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري»، وهو ما يؤكّده المهندس الزراعي سجيع عطية الذي رأى أنّ «الموجة تعبّر عن حالة التصحّر التي تضرب المنطقة بسبب تغيّر حالة المناخ، مظاهرها برد شديد ليلاً، وجفاف وصفاء كلّي نهاراً، وتراجع كمية الأمطار».
في موازاة ذلك، أوضح رئيس دائرة التنمية الريفية والثروة الحرجية في مصلحة الزّراعة في الشّمال غازي الكسّار أنّ انحباس الأمطار «سيؤدّي حتماً إلى انخفاض مستوى المياه الجوفية، وهو ما سيؤثّر سلباً على الآبار وريّ المزروعات، بالإضافة إلى ما ينتجه ذلك من مشاكل ونزاعات بين المزارعين خاصة، وأثار سلبية على المروج والمراعي التي تيبس أعشابها باكراً، فتتقلص بالتّالي رقعة المساحة المخصصة لرعي الأغنام والماشية، وهذا يؤدّي إلى حصول تعدّيات على الأشجار الحرجية».
ويشير الكسّار إلى أنّ «انحباس الأمطار خلال أيلول وتشرين الأول والنّصف الأول من تشرين الثاني، يؤدّي عادة إلى يباس الأعشاب الموجودة عند أطراف الغابات والمناطق الحرجية، وهو ما يحوّلها خلال هذه الفترة إلى وقود قابل للاشتعال عند أول احتكاك».
وفي الوقت الذي لفت فيه الكسّار إلى «مخاطر تقلّص المساحة الحرجية في لبنان سنوياً، إمّا نتيجة الحرائق، التي كان أغلبها مفتعلاً خلال السنوات الأخيرة في نهاية الصيف وبداية الخريف، وإمّا نتيجة توجّه المواطنين لاستعمال الحطب في مجال التدفئة من أجل التوفير في ظلّ الضائقة المعيشية القائمة»، أشار إلى أنّ «عدد الفصول في لبنان ليس أربعة كما يتوهّم البعض، بل هو في الواقع فصلان: ماطر وجاف؛ فكلما طال موسم الجفاف ارتفع احتمال حصول حرائق، وكلما طال موسم البرد والصقيع واشتد، امتدت الأيدي إلى الأشجار الحرجية، وتقلصت بموازاتها سنوياً مساحة الأراضي المزروعة».
تجدر الإشارة إلى أن مصلحة الأبحاث الزراعية في تل عمارة توقعت أن يستمر الطقس بارداً حتى نهاية الاسبوع مع استمرار انحباس الامطار. وأعلنت المصلحة أن مجموع الأمطار لغاية اليوم /207/ ملم يقابله في اليوم ذاته من العام المنصرم /175/ ملم، أما المعدل العام لغاية اليوم فهو /340/ ملم.