strong> نادر فوز
• «80 و80»: اللبنانيّون ملّوا من الأوضاع إلا أنّ انتماءاتهم تبقى طاغية
أدّت الحالة السياسية بعدد كبير من اللبنانيين إلى التخلّي عن مطالب، ربما كانت محقة، سعياً وراء الهدوء والاستقرار وهرباً من هيمنة الألوان السياسية على حياتهم اليومية، والتي بدأت تبهت بفعل الثقة المزعزعة بالزعماء والسياسة

«سئمنا من كل ما يجري، لا نريد إلا العيش بسلام»، هي العبارة الأكثر تواتراً على ألسنة المواطنين اللبنانيين خلال عام 2007 والأحداث التي رافقت هذه السنة. فتتردّد هذه العبارة في المقاهي والشوارع وسيارات الأجرة وحانات السهر، كأنّ معظم المواطنين اللبنانيين تخلّوا عما اعتادوا على النطق به خلال العامين السابقين، كشعارات «حرية، سيادة واستقلال» أو تلك التي تطالب بالحقيقة والحرية والوحدة الوطنية وغيرها.
اغتيالات سياسية متلاحقة، عبوات ناسفة متفرّقة، حروب على منظمات وحركات إرهابية، فراغ في السلطات، زيارات وفود دولية متتابعة، أوضاع اقتصادية هشّة، وقضايا حياتية أخرى دفعت اللبنانيين إلى التخلّي عن مطالب سياسية والاكتفاء بطلب «راحة البال».
تبدأ حالة السأم من السياسة في سيارة الأجرة حيث يبثّ معظم السائقين شكواهم في العجز عن تأمين لقمة العيش وارتفاع أسعار المحروقات وتسكير الطرقات المجاورة لـ«المربّعات الأمنية» وغيرها من المسائل الأخرى، فيما تزّين مراياهم وزجاج سياراتهم الأمامي صور عدد من الزعماء أو شعارات بعض الأحزاب. يتحدث أحمد، كما تشير لائحة التعريف على «تابلو» السيارة، عن النتائج التي وصل إليها اللبنانيون جراء الخلاف السياسي الحاصل؛ «هذه ليست مواقف سياسية، بل تطبيق لمواقف دولية»، يقول أحمد، ليتابع بعدها ويشير إلى زيارة الوفود الدولية المتتابعة والدورية إلى لبنان «بهدف تسليم كلمة السرّ». كما أنّ معظم السياسيين في لبنان «بسينات»، بحسب أحمد، فلا يمكنه أن يكون تابعاً لهذه «الفصيلة» ويفضّل الاهتمام بكيفية تأمين الطعام والتعليم لأولاده بدل «تضييع الوقت إلى جانب بوطة من اللصوص».
في شارع الحمرا، أحد أحياء العاصمة الأكثر نشاطاً، وبعيداً عن مقاهي «المثقّفين»، ينهمك عدد من التجار، بين رمية نرد وأخرى، في الحديث عن الأوضاع السياسية. والخلاصة واضحة بحسب أبو محمد، صاحب أحد محال الأحذية بجوار فندق «البافيون»، «هذا كله لا يطعمنا خبزاً». ويبقى الأهم بحسب البائع أن «تمشي الأحوال وتعود بيروت كما كانت عاصمة السياحة والتجارة». يتّهم التاجر البيروتي السياسيين بتردّي المبيعات والوضع الاقتصادي، وينتقد تغليب بعض أصحاب المحال الانتماءات السياسية ومساعدة بعض الأجهزة على تحويل منطقة الحمرا إلى شبه جزيرة أمنية؛ كما يتساءل «ألا يكفي إقفال شوارع رئيسية وتهجيج الزبائن من زحمة السيارات والإجراءات الأمنية»، فبنظره مصلحة التجّار يجب أن تكون «أبدى» من المصالح الشخصية و«إرضاء حكّام المنطقة».
أما رئيس لجنة تجار الحمرا وتفرّعاتها، زهير عيتاني، فقد رأى أنّ الأسواق مرهونة بالمغتربين اللبنانيين و«الحمد لله تحسّن المبيع خلال الأعياد الكريمة»، مشيراً إلى أنّ الأوضاع السياسية تدفع المواطنين إلى «المحافظة على الأموال» تحسباً لأي تدهور في الأحوال الأمنية. وضع سوق شارع الحمرا كغيره من الأسواق الأخرى كفرن الشباك ومار الياس وبربور. ويحافظ عيتاني على رمزية التجّار في حبّهم للاستقرار والأمن: «كل لبناني أخ لنا، وزبون عندنا»، ويؤكد أنّ التجارة بعيدة عن الانتماءات السياسية، ويحمّل كل الطبقة السياسية المسؤولية عما يحدث من تردّ للأوضاع على جميع الأصعدة.
للمغتربين اللبنانيين رؤيتهم الخاصة في الوضع السياسي اللبناني والسياسة في لبنان؛ فمنهم من يعود إلى وطنه، بعد أن عبّأته القنوات الفضائية اللبنانية، «مندفعاً» للتعبير عن انتمائه السياسي وموقفه الجذري من أحد الأطراف، ومنهم من يرجع للاطمئنان على أهله، بانتظار لحظة العودة إلى وطن الهجرة لـ«الخلاص من قرف السياسة اللبنانية» كما يقول فراس حداد. انتقل فراس منذ ما يقارب الأربع سنوات للعيش في دبي، متخلياً عن كل ما يربطه بلبنان «من أرض وشعب وحكّام». يرى فراس أنّ العيش خارج لبنان يساعد في نسيان كل ما تربّى عليه اللبنانيون من حقد وكراهية لأبناء الأحزاب أو الطوائف الأخرى؛ كما يشير إلى وجود لوبيات لبعض الجماعات السياسية اللبنانية في الإمارات، كما يتحدث عن نقاشات حادّة تجري بين بعض اللبنانيين لأسباب سياسية، «إنّ لعنة السياسة تحلّ علينا أينما كنّا».
من جهة أخرى، انعكست الحياة السياسية المشوّهة في لبنان على آراء وانتماء عدد كبير من الشبان الذين أصبحوا يفضّلون الاهتمام بأمور أخرى بعيداً عن الأحزاب والنضال والشأن العام. «تلاحقنا السياسة من التلفزيون إلى اللوائح الإعلانية في الشوارع، إلى الجامعة»، يشكو جاد أحد طلاب الهندسة في الجامعة الأميركية، ليضيف «حتى وهم يرقصون، يقومون ببعض الشعارات الحزبية على أنغام التيكنو». يتساءل جاد عن الهوس الشبابي بالسياسة والأحزاب، مشيراً إلى «التخلّف الذي تعانيه كل القوى السياسية». ويتحدث جاد عن «الانفصام» الذي يعيشه يومياً ما بين «الشرقية» مكان سكنه، و«الغربية» مكان جامعته، ليضيف «انتقل الانفصام إلى داخل كل شارع وحيّ في بيروت». «الشعب كذّاب»، يقول جاد، لافتاً إلى المعاناة التي ينقلها المواطنون كل يوم من الأوضاع وانغماسهم في المقلب الآخر في انتماءاتهم السياسية «العمياء». المشكلة إذاً، بحسب جاد، تكمن ليس فقط في الزعماء، بل في المواطنين أيضاً ليردّد عبارة «80 و80» من مسرحية «فيلم أميركي طويل». انضمّ جاد عام 2005 إلى عدد من التظاهرات والاعتصامات، إلا أنه عاد وتراجع عن المشاركة لأنّ «السياسة اللبنانية ليست إلا كذبنً ونفاقاً ومحافظة على مصالح الزعماء». لا يذهب ضحيّتها إلا المواطنون «الشرفاء» المؤمنون بالقضايا والمستعدون للتضحية في سبيلها.



سياسة وبطالة

أصدرت إدارة الشركة التي كان يعمل لديها مازن قراراً بفصله من العمل مع اشتداد الخلاف السياسي بعد الإضراب الذي قرّرته قوى المعارضة عام 2005. وكان مازن قد تعرّض منذ بدء «ثورة الأرز» إلى مضايقات في عمله بسبب انتمائه السياسي المختلف عن انتماء معظم موظّفي الشركة، كإجباره على المشاركة في تظاهرة 14 آذار. «كنت ملزماً بارتداء الشال الأبيض والأحمر» يقول مازن، مشيراًً إلى أنه طرد من العمل بعد أن تمادى أحد الموظفين الموالين في التعبير عن رأيه وشتم طوائف وزعامات، ما دفع «الدخيل» إلى الردّ فحصل اشتباك أنهاه المدير بقرار الطرد. يشير مازن إلى أنّ حالات عديدة مماثلة حصلت من إدارات ذات انتماءات سياسية متعددة، فيقول «قطعوا لي باب رزقي بعد أن أعمتهم السياسة عن المسائل الإنسانية».