فاتن الحاج
لا يحاول الطالب الكفيف يوسف محمد(20 عاماً) الاندماج، بل يعيشه معتمداً على مهاراته الشخصية في التركيز والانفتاح و«نعمة» التكنولوجيا التي طردت العزلة من قاموسه.

فَقَد الطالب يوسف محمد نعمة البصر وهو في الرابعة من عمره، ومنذ ذلك الوقت قرّر أن يكون شعاره «مشّي معي ومش مشّي لآخدك». لكن رحلة يوسف مع الدمج بدأت فعلياً في صف الثانوي الأول حين انتقل من مؤسسة لذوي الاحتياجات الخاصة، إلى مدرسة رسمية.
«هناك بدأتُ أتقبلُ فكرة الدمج»، يقول يوسف، «ووجدتُ نفسي أمام خياريْن: إما العزلة أو الاختلاط. لم يكن القرار سهلاً لأنني كنتُ أظن أنّ العالم الخارجي سيتعاطى معي بشكل وحشي، لكن انطباع التلامذة الإيجابي فاجأني وشجعني على المشاركة والجلوس في المقاعد الأمامية حيث أمضيت المرحلة الثانوية بتفوق». ومع أنّ الوسائل التي كانت توفرها المؤسسة «الخاصة» لم تكن متاحة في المدرسة الرسمية، لكن المعاناة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـــــ الفرع الأول في الجامعة اللبنانية حكاية أخرى. يشرح يوسف علاقته بالمكان: «لا أحب المجيء إلى الكلية، فواقعها لا يشجع على الدرس، وأشعر بأنني على الطريق العام، وأحتار أين أجلس في وقت الفراغ، بعدما تصبح الكافيتريا قعدة أراكيل».
لم يشعر يوسف بأنّه انتقل إلى المرحلة الجامعية، إلّا في الآونة الأخيرة، حين تعرّف إلى أحد الأصدقاء، فأصبح يرافقه ولا يلتزم بمواعيد «الفان» التي كانت تحتم عليه أن يكون في الجامعة منذ السابعة والنصف صباحاً حتى الثالثة من بعد الظهر.
تخرج صديقات يوسف المحجبات من الصف، يلقين عليه التحية، يسألهن عن سير الحصة التي لم يحضرها «لأنّها ليست مهمة»، يخبرنه بعض التفاصيل قبل أن يبتسمن له ويمضين في طريقهن. يعلّق: «بات لدي الكثير من الأصدقاء في الكلية، ومساقبة إنو معظمنا منشبه بعضنا ونفس التوجه». ثم يقول: «التوجه السياسي أهم من الاسم في هذا البلد، وأنا أشعر بأنني أتفق فكرياً واستراتيجياً مع حزب الله، وإن كنت لا أنتظم في صفوفه». يستدرك: نعيش في الضاحية منذ عام 1976، وأشعر بأنّها الجنّة وأحبها أكثر من فلسطين».
تستوقفك العبارة الأخيرة. هل يوسف هو فعلاً فلسطيني؟ قد تشير ملامحه إلى شيء من هذا القبيل، لكن لهجته اللبنانية وصراحته تقطعان الشك باليقين: «لا أعرف فلسطين سوى بالصور، هي لا تحرك شيئاً في داخلي، ولا ينقصني سوى الهوية لأصبح لبنانياً، كما أنني لا أشعر بالانتماء القوي، ولن أعود إذا حرّروا فلسطين». يلخص: «الحنيّة مش موجودة». ثم يذهب إلى أبعد من ذلك ليقول: «إذا تبارى المنتخبان اللبناني والفلسطيني في الفوتبول، أشجع الأول من دون تفكير».
يبدو يوسف مهووساً «بالفوتبول»، يلعب مع رفاقه في الحي، ولا يترك مباراة تفوته، حتى بات مرجعاً لآخر التفاصيل والنتائج في المباريات العالمية. ومع أنّ يوسف لا يعرف لماذا هذا التعلق الكبير «بالفوتبول»، يفطن إلى أنّ السمة البارزة في شخصيته هي التركيز: «أركز في عملي، ولا يشغلني أي شيء مهما كان كبيراً. فأفكاري ليست مشتتة، لأنني أفكر بعقلي لا بقلبي».
ماذا عن الحب؟ «zero»، يجيب يوسف، فالتجارب حولي غير مشجعة، والحب المبتذل هو السائد، فكيف بي أن أنجح وأنا الذي سأبذل جهداً مضاعفاً. الحب لا يدوم لي. لا أرفض المغامرة لكنني أرجئها. شايل الفكرة من راسي هلق والأولوية للدرس».
ربما اختار يوسف أن تكون «الإنكليزية» حبيبته، فعاش معها قصة حب لن تنتهي، وعشقها حتى الإقرار بأنه لو كان الوضع مختلفاً وتسنت له دراسة اختصاصات علمية، لما فرّط باختصاصه. وقد أضفت التكنولوجيا متعة على الدراسة، بعدما سعى يوسف إلى الحصول على برنامج «TALKING PROGRAMME»، الذي يقرأ له المحاضرات التي يكون قد سجّلها بواسطة جهازه المحمول. «الطابعة والسكانر والفوتوكوبي جعلتني أعتمد على نفسي، وأستغني عن الشرائط التي كانت تسجلها لي المؤسسة وتسلمني إياها في الشهرين الأخيرين. وعن المستقبل، يقول: «سأحاول أن أبحث فور إنهاء الإجازة عن عمل، قبل أن أكمل دراساتي العليا، معتمداً على كفاءتي الشخصية».