strong> وفاء عواد
شـلالا «حارس الهيكل» يتابع عمله كالمعتاد... وأحياناً من خلف الزجاج

يفتقد مقرّ الرئاسة الأولى «عجقة» الزوّار، فيما لم يبقَ في زواياه إلا الإنتظار القارص... وحده موقعه المحاطب الأشجار «يتفرّج» على العاصمة من بعيد، ويتابع ما يدور في كواليسها... يطلّ على الجمهورية «المعلّقة»، فيما هو محاط بعيون العالم كلّه إلى أجل غير مسمّى...!


هو الفراغ الذي لا يليق بالمكان: أضواء القصر لا تزال مطفأة لأن الحلّ تأخّر في الوصول إليه... خلا الكرسي وانكسر خاطر الجمهورية...
تذهب الى قصر بعبدا، وفي بالك صورة مفخّمة عن مقرّ الرئاسة الأولى، مستقاة من رهبة الموقع وما ارتسم في ذهنك من صور متراكمة ومتزاحمة عن «فخامة» المكان و«عجقة» الإستقبالات وتنوّع الصالونات، وحتى عن كرسي الرئيس ومكان جلوسه، بحسب الضيف وعدد مرافقيه، إضافة الى ما سمعته عن الإجراءات الأمنية المشدّدة قبل الوصول بمسافة.
لكن الذهاب الى القصر في عهد «فخامة الفراغ» ينسف كل ما في الذهن عن ذلك المكان الذي كنت تظن أنه لا يُطال: التفتيش أمام المدخل رقم 6 هو ذاته لم يتبدّل، كما التدقيق في بطاقات الهوية، لكن الإجراءات ليست كما في البال... وفي المحصّلة، تكون البطاقة المؤقتة المذيّلة بتوقيع قائد لواء الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان (الموجود منذ أكثر من سنتين في سجن رومية) تأشيرة الدخول الى ذاك المكان.
عسكر منتشر على الطريق المعبّد الواسع النظيف... قطّتان «شاردتان» صودف وجودهما أمام المدخل الأساسي رقم 3 ليأتي المشهد الأكثر إيلاماً. تشعر به مهما كان موقعك في 8 أو 14 أو أيّ رقم آخر، لا يهمّ: السارية عارية في الباحة الرئيسية للقصر، لأن من يُرفع له العلم ولا يوشّح إلا أمامه ليس موجوداً، ولا وجود لأعلام دول عربية أو أجنبية اعتادت وجودها «الخجول» الساريات الأخرى الملاصقة... كذلك، أنزل العلم الذي يرفع فوق جناح إقامة الرئيس، لأن المقيم ليس موجوداً أيضاً... البركة في وسط الباحة ركدت مياهها، والنافورة التي كانت ترتفع إيذاناً بوجود الرئيس في مكتبه أقفلت وجفّت الى أجل غير مسمّى... يعني، باختصار، «لا تندهي.. ما في حدا».
ويكتمل المشهد بوجود سيارة أحد موظّفي القصر متوقفة أمام المدخل الرئيسي للقصر، حيث اختفت «دعسات» حارسَي الشرف اللذين كانا يذرعان المدخل ذهاباً واياباً ببزتيهما الكحليتي اللون وبحركاتهما المتناسقة... أما «حامل الراية»، المكلّف حماية الرئيس، وهو من عناصر الحرس الجمهوري، فقد تبدّلت مهمته وجلس وراء مكتب استقرّ أمام المدخل المقفل ليقوم بحراسة الفراغ، إذ لا لزوم لحماية الغائب.
أما في الداخل المقفل، فينبعث ضوءان خافتان في زاويتين متقابلتين، ليسمحا برؤية أبواب مقفلة على محتوياتها... وعدد من التماثيل، ومن بينها تمثال لجسد من دون رأس، والتي تشكّل مع مثيلاتها في القاعات المغلقة متحفاً مصغّراً استحدثه الرئيس السابق اميل لحّود لإبراز وجه لبنان التراثي والثقافي، مع ما يجمعه في زواياه من قطع أثرية جُمعت من على امتداد مساحة لبنان... هذا هو فقط ما تتاح رؤيته، أو بالأحرى ما يَسمح برؤيته زجاج الباب الرئيسي بلونه البني القاتم، والذي تركت عليه أصابع «المشاهدين» بصمات واضحة.
تنتهي الجولة الميدانية هنا، وفي تفاصيلها يتّحد المشهد والمعنى في قالب واحد، وبعبارة واحدة: «القصر كئيب، لأنه رمز لا باطون». هكذا يختصر الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية والمستشار الإعلامي فيها رفيق شلالا تفاصيل المشهد «السهيان متل الطقس اللي ما ببالو حدا»، وفق كلمات الشاعر طلال حيدر، مستذكراً بأسى مجريات ما حصل فور التزام الرئيس لحّود مغادرة القصر، في تمام الساعة الثانية عشرة من ليل 24 من الشهر الفائت، أي في آخر دقيقة من ولايته: «حمل جندي من لواء الحرس الجمهوري مجموعة مفاتيح وأقفل الأبواب: المدخل الزجاجي الكبير المؤدّي الى البهو الرئيسي ومنه الى مكتب الرئيس وقاعة انتظار الزوّار، صالون السفراء، قاعة 22 تشرين الثاني، قاعة 25 أيار (قاعة الطعام)، قاعة الإجتماعات الخاصة برئيس الجمهورية، قاعة مجلس الوزراء والمكاتب الملحقة بها، ومدخل الجناح الخاص بالرئيس، أما مكتب الرئيس الذي يفتح عادة ببطاقة ممغنطة ذات أرقام سريّة «فقد أقفل وتبدّلت أرقام البطاقة»، ولن يفتح إلا للرئيس الجديد... عندما يأتي».
في مكتبه، حيث لا تزال صورة الرئيس لحّود معلّقة، إلى حين صدور مذكرة رسمية تقضي باستبدالها بصورة الرئيس الجديد، وفي ظلّ غياب الزوّار الرسميين، يبدو شلالا كـ «حارس الهيكل»: يستقبل الإعلاميين الذين يأتون لاستطلاع أحوال القصر الخالي من سيّده، فـ «لا شيء لديّ أقوله سوى الحديث عن أحوال القصر»، إضافة الى متابعة إعداد تقارير الصحف وعمليات الرصد التي «لا ترسل الى أي أحد، ولا يقرأها أحد».
«الفراغ محزن» كما يؤكد شلالا، لكن لا فراغ في الأمور الإدارية، والمتابعات تقف عند حدود اتخاذ القرارات، فالمديرية العامة لرئاسة الجمهورية، بأقسامها الخمسة (الشؤون القانونية، المراسم، الهندسة، شؤون المال والموازنة، والإعلام) لا تزال تعمل كالمعتاد في مبنى الموظفين «لأن القصر إدارة رسمية، وإن كان الرئيس غير موجود»، على حدّ تأكيد مديرها العام العميد المتقاعد سالم أبو ضاهر، والذي بدا منشغلاً بالإشراف على تنفيذ ترتيبات ما تسبق وصول الرئيس المنتظرأما عن حال الموظفين الذين يتجاوز عددهم الـ100، فإن الأيام المقبلة تحدّد مصائرهم، وخصوصاً المتعاقدين والمياومين منهم، و«بيجوز يضلّو كلّن، أو يفلّو كلّن»، على حدّ تعبير شلالا، وهو الذي عاصر حالة فراغ مماثلة عام 1988 عندما غادر الرئيس أمين الجميّل قصر بعبدا من دون أن يسلّم الرئاسة لرئيس جديد، بل لحكومة «إنتقالية» ترأسها العماد ميشال عون. وبانتظار ما ستحمله الأيام المقبلة من مفاجآت، يختم شلالا كلامه بالقول: «سأبقى في القصر حتى إشعار آخر، لاستقبال الرئيس العتيد».
وكما هي حال المديرية العامة لرئاسة الجمهورية، فإن الحياة الطبيعية لم تفارق ثكنة لواء الحرس الجمهوري المشرفة على مبنى القصر الخالي، فاللواء الذي يقوده، وكالة، العميد الركن خليل المسنّ، يقوم بدوره كاملاً: حماية كامل أقسام مبنى القصر، إضافة إلى المهمات الجديدة التي وسّعت نطاق عمله إلى محيط القصر، من الجمهور وصولاً إلى الحازمية والحدث وأطراف بعبدا، إنفاذاً لمقتضيات خلوّ سدّة الرئاسة وانتقال الأمرة مباشرة إلى قيادة الجيش. ويبقى هذا اللواء المؤلّف من 1500 جندي يحرس القصر الخالي، يمارس التعليمات ذاتها من المدخل رقم 1 حتى المدخل رقم 32،وشعاره إلى الأبد: «الولاء بالدم».
على أي حال، وبانتظار الآتي، فإن في قصر الفراغ وشاحين ينتظران ذهاب الرئيس العتيد «المنتظر» إلى مجلس النوّاب لأداء القسم، ثم عودته بموكب رسمي مع رئيسَي البرلمان والحكومة، إن أمكن ذلك، الى بعبدا لتسلّم مهامه رسمياً... حيث يرفع العلم على السارية ويعزف النشيد الوطني له قبل أن يستعرض حرس الشرف، ولكن يبقى الأهمّ، وهو سابقة في تاريخ الجمهورية، إذ لا رئيس سلف لتوشيح الخلف بوسامي الأرز الوطني (الوشاح الأكبر) والإستحقاق اللبناني من الدرجة الإستثنائية. فماذا سيحصل حيال هذا المظهر البروتوكولي؟



المهندس المجهول

في عهد الرئيس كميل شمعون (عام 1953) وضع خرائط قصر بعبدا مهندس سويسري طمست أحداث 13 تشرين الثاني من عام 1990 إسمه مع ملفّات القصر التي احترقت. جمعت هندسة القصر بين الحداثة والطابع التراثي، فجاءت مزيجاً من القناطر والصالات الواسعة، في بناء شيّد بالعرض وبسقف مسطّح.
وكان البدء بتنفيذ المشروع تأخر حتى نهاية عهد الرئيس شمعون، ما جعل الرئيس فؤاد شهاب يتسلّم الرئاسة من دون قصر رئاسي.



وداع... ووديعتان!

لحظة مغادرته القصر، ترسّخت تفاصيل مشهد وداع الرئيس السابق اميل لحّود في ذاكرة الكثيرين: عُزف له النشيد الوطني... أدّى التحية للعلم... ودّع قائد الحرس ومعاونيه الذين لم يتخلّوا عنه في أيام
الشدّة...
وعند نهاية العرض، ألقى لحود خطبة الوداع بضمير مرتاح مطمئناً الى أن «لبنان لا يزال بألف خير»، و«لا دولة في العالم، مهما كبرت، تستطيع أن تفرض على لبنان رئيساً يعمل ضد مصلحة
البلد»...
وفي تمام الثانية عشرة، التفت يبحث عمن يسلمه الأمانة فلم يجد أحداً...غادر القصر على وقع هتافات «الله معك»، من دون أن يلتفت الى الوراء.
في ذلك الوراء، أخفى بعضهم غصّة ممزوجة بألم الفراق...
غصّة لأن الرئيس «الحبيب» لم يرغب بأن يكون له وداع كبير يليق بالمناسبة، وهو الذي تربّع على عرش الجمهورية تسع سنوات... بل فضّل أن يغادر كما دخل: لم يشأ مظاهر الوداع السياسي أو الشعبي... وبالكاد، اقتنع بالوداع الرسمي، مشترطاً حصر الحضور بكبار الموظفين في القصر، إلى حدّ جعله يطلب شاكراً من كل من اتصل به عدم المجيء الى القصر.
وفي الداخل الذي أقفلت الأبواب على محتوياته، ترك وديعتين لمن يهمّه الأمر: لوحة معلّقة في صالون السفراء تجسّد يوم تحرير بلدة أرنون الجنوبية من الأسلاك الشائكة التي أحاطها بها العدو الإسرائيلي عام 1998، مع بعض من تراب البلدة، وهي التي كان يفاخر بها دوماً أمام زوّاره... وشجرة أرز أساسيّة تحمل إسمه زرعها الى جانب 66 شجرة أخرى تحمل أسماء عدد من الرؤساء وتاريخ زياراتهم لبنان، في حديقة القصر التي استحدثها
عام 2002.



شهد 6 ولايات... واحتضن اثنتين

كان الرئيس شارل حلو أول من وقّع اسمه على سجل الشرف، كأول رئيس يدخل إلى قصر بعبدا، في السنة الأخيرة من ولايته (من منتصف العام 1969 الى منتصف العام 1970).
أكل القصر نصيبه من الحرب الأهلية منذ البداية. فقد دمّر القصف الغرفة المفضّلة والأحبّ على قلب الرئيس سليمان فرنجية، وهي غرفة زجاجية تطلّ على البحر لجهة الغرب، كان تعوّد قضاء معظم أوقات فراغه فيها. لذا، قرّر الرئيس نقل مقرّ الرئاسة إلى بلدة الكفور، ولم يعد إلى بعبدا إطلاقاً إلى أن سلّم مقاليد الرئاسة إلى الرئيس الياس سركيس في قصر بلدية الذوق الذي شكّل مقرّاً رئاسياً ليوم واحد فقط.
وفي الفترة الأولى من ولايته، أقام الرئيس الياس سركيس في منزله الخاص في انتظار انتهاء إصلاح القصر، وعندما انتقل إليه بقي فيه حتى انتهاء ولايته. وفيه سلّم الرئاسة إلى الرئيس أمين الجميل الذي تسلّم مقاليد الحكم بعد اغتيال شقيقه بشير الذي لم يدخل القصر وظلّ رئيساً «منتخباً» فقط. أما الرئيس رينيه معوّض فقد أمضى المدّة القصيرة من ولايته متنقّلاً بين الشمال ومقرّ الرئاسة المؤقّت في الرملة البيضاء، قبل اغتياله في قلب بيروت يوم عيد الإستقلال. وبين عامي 1993 و1998، سكن القصر الرئيس الياس الهراوي، بعد انتقاله من مبنى الرملة البيضاء الذي تحوّل الى مبنى لجريدة «المستقبل»ط.
وبذلك، يكون الرئيس لحّود آخر من سكن القصر طوال السنوات التسع الماضية، وهو واحد من رئيسين فقط سكنا القصر طوال مدة ولايتيهما، الثاني هو الجميل... أما الباقون، فإما لم يدخلوه (شمعون، شهاب، بشير الجميل ومعوّض)، وإما سكنوه فترة معينة (حلو، فرنجية، سركيس والهراوي). ويمكن اعتبار لحود ممسكاً بالقصر منذ عام 1989 كقائد للجيش، ثم كرئيس منذ عام 1998 الى أن غادر في 24 تشرين الثاني الفائت... وقبل أن يصبح الرئيس السابق إميل لحّود.