نقولا ناصيف
لا تبدو المعطيات الأخيرة المحيطة بجولات التفاوض، المباشر وغير المباشر، بين الموالاة والمعارضة، حيال تقاسم المرحلة التالية لانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، واضحة تماماً.
بعضها تحدّث عن تفاهم جزئي على مبدأ قانون الانتخاب الذي يعتمد القضاء دائرة انتخابية تمهيداً لانتخابات ربيع 2009. والبعض الآخر تحدّث عن اقتراحات متعارضة للتركيبة المحتملة لأولى حكومات العهد من نوع الاتفاق على تحديد حصة كل من قوى 14 آذار والمعارضة في الحكومة الجديدة.
والبعض الثالث أشار إلى عدم رغبة الفريقين الخوض في اسم الرئيس المرجّح للحكومة في الوقت الحاضر ريثما يُنجز التفاهم أولاً على تأليف الحكومة الجديدة. إلا أن لسم الرئيس المكلف سيكون جزءاً لا يتجزأ من الصفقة، على غرار تلك التي كان قد أبرمها، ربيع 2005، التحالف الرباعي عندما اختار فؤاد السنيورة رئيساً لأولى حكومات ما بعد الحقبة السورية ثمن مقايضة سياسية متبادلة لحكم المرحلة الجديدة، وجاءت الاستشارات النيابية الملزمة التي أجراها الرئيس إميل لحود، في تموز، شكلية بعدما طغى فيها الرقم غير المسبوق على تخطي الأصول الدستورية والدلالة السياسية: 126 نائباً من 128 سمّوا باسم التحالف الرباعي السنيورة ما عدا الرئيس حسين الحسيني والنائب أسامة سعد. كان الرئيس ميشال عون ونواب كتلته بين النواب الـ126.
بذلك ينبثق اسم الرئيس المكلف من هذه الصفقة لا من الاستشارات النيابية الملزمة التي يجريها رئيس الجمهورية عملاً بالمادة الـ53 من الدستور. كذلك تكون حال الاستشارات التي يجريها رئيس الحكومة المكلف مع النواب لتأليف الحكومة الجديدة غير ذات جدوى ما دامت ستبصر النور قبل أن يجري استشاراته هذه. وفي الحالين يقع الأمران في منأى عن الصلاحيتين الدستوريتين لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف.
واستناداً إلى ما يدور في حلقات التفاوض حول تأليف الحكومة الجديدة، ثمة صيغتان متداولتان من غير حسم نظراً إلى الخلافات الشائكة المحيطة بكل منهما. فهما ليستا الصيغتين النهائيتين ولا المقبولتين، لكنهما تبرزان الطريقة التي يقارب فيها فريقا الموالاة والمعارضة تفاوضاً لا يعدو كونه عضاً متبادلاً للإصابع:
أولى الصيغتين تتحدث عن تقاسم فريقي النزاع مقاعد الحكومة المقبلة بنسبة 60 في المئة لقوى 14 آذار، و40 في المئة لقوى 8 آذار وعون. ولا تلحظ هذه الصيغة تخصيص رئيس الجمهورية بعدد معين من الوزراء كي يحافظ على موقعه حَكَماً بين الفريقين اللذين سيتألف منهما التوازن الحكومي الجديد.
وثانيتهما تتحدث عن تقاسمهما حكومة غير تقليدية بعددها إذ يكون وزراؤها 32 إذا اقتضى الأمر توسيعها إلى مثل هذا الحجم غير المسبوق، ويكون فيها لقوى 14 آذار 16 وزيراً، وللمعارضة 12، أمّا حصة رئيس الجمهورية، فأربعة وزراء. وتصطدم هذه الصيغة أيضاً بتباين يتصل بجدوى أن تكون لرئيس الجمهورية كتلة وزارية صغيرة لن يكون في إمكانها الاضطلاع بدور حاسم وفاعل في توازن القوى داخل الحكومة، ولا يسعها كذلك أن تحمل رئيس الجمهورية على التخلي عن دوره كحَكَم كي ينحاز إلى إحدى كتلتي الموالاة والمعارضة.
ومع أن كلّاً من هاتين الصيغتين لا تعدو كونها اقتراحاً للتداول، فقد استقبلتا فوراً بتحفظات واعتراضات متبادلة: لا تيار المستقبل برئاسة النائب سعد الحريري في وارد تقديم تنازل للمعارضة في ما يتخطى القبول بقائد الجيش رئيساً للجمهورية ـــــ وهو الثمن الباهظ الذي سلمّت الغالبية بتسديده سلفاً ـــــ ولا المعارضة في وارد تأمين نصاب ثلثي مجلس النواب لتعديل الدستور ومن ثم انتخاب سليمان رئيساً قبل الحصول على ضمانات لا تعرّضها للتجربة المخيّبة في التحالف الرباعي ربيع 2005، ولا لتكرار التجربة الأخرى الملازمة للأولى التي خبرها عون مباشرة وهي أن في وسع الغالبية ــــــ ومسيحييها خصوصاً ــــــ أن يحكموا في معزل عن
عون.
بيد أن المسار الذي يسلكه التفاوض، المباشر وغير المباشر، بين الطرفين، حدّد سلفاً ضوابطه كالآتي:
1 ـ لا أكثرية ثلثي مجلس الوزراء لقوى 14 آذار، ولا الثلث الضامن ـــــ أو المعطّل ـــــ للمعارضة. تالياً يتركز هامش مراوحة التفاوض على إعطاء ــــــ أو عدم إعطاء ــــــ الموالاة نصاب الأكثرية المطلقة في مجلس الوزراء. كما يتصل الأمر بمدى إصرار هذا الفريق على الاكتفاء بالحصول على هذا النصاب ما دام قد سلّم ـــــ أو سيسلّم ــــــ بتخلّيه عن سابقة حكومة السنيورة، وتجريده من غالبية ثلثي المقاعد التي مكّنته من السيطرة على نصاب انعقاد مجلس الوزراء والتصويت على الشؤون المصيرية، من غير أن تقف المعارضة حائلاً دون ذلك. وهي الحال التي رافقت عمل حكومة السنيورة في الأشهر الأخيرة منذ استقالة الوزراء الشيعة في 11 تشرين الثاني 2006 وتحوّل وزراء آخرين من موقف إلى آخر.
2 ـ عدم تجاهل موقع رئيس الجمهورية في المعادلة الحكومية الجديدة التي ترسم مرحلة مهمة في إرساء توازن داخلي يطوي طموحات 14 آذار إلى الإمساك بكل مفاصل الحكم. وهي، إذ تفقد نصاب الثلثين في مجلس الوزراء بعد فقدانها فرصة انتخاب رئيس للجمهورية من صفوفها، تبدو كأنها تعدّ نفسها للتعامل بسلوك مختلف واحترام مع رئيس جديد للجمهورية سيستعيد منها الكثير من الصلاحيات التي حصلت عليها، مذ تجاهلت لحود أو أسهمت في تشديد العزلة عليه. وفي واقع الأمر فإن حكومة جديدة خالية من أكثرية مقرّرة وأقلية معطلة، سوف تتيح لرئيس الجمهورية الاضطلاع بدور الحَكَم في إدارة مجلس الوزراء، من غير أن يطمح إلى امتلاك حصة وزارية مماثلة.
3 ـ سواء نجح الاتفاق المسبق على الحكومة المقبلة أو أخفق، أو اكتفى بتحديد الخطوات المنوطة بهذه الحكومة حتى انتهاء ولايتها بعد الانتخابات النيابية ربيع 2009، فإن المشكلة التي تنتظر قوى 14 آذار والمعارضة على السواء هي الحجم الذي ينبغي أن يكون عليه الرئيس المقبل للحكومة، أياً يكن. بل يتعيّن على الأخير أن يسلّم سلفاً بأنه سيجلس إلى يمين رئيس الجمهورية حول طاولة مجلس الوزراء لا مكانه، وسيتخلى عن الكثير من البريق الذي أتاحه المجتمع الدولي للسنيورة في السنتين المنصرمتين، فيعود اتصال السفراء والموفدين والتشاور الدولي مع رئيس الجمهورية، مما يعيد جزءاً كبيراً من السياسة الخارجية إلى الرئيس. على نحو كهذا يتحدث بعض المعلومات عن سعي الرئيس العتيد، العماد سليمان، إلى اختيار وزير للخارجية قريب منه يضع حداً لازدواجية الدبلوماسية اللبنانية وتنافر اتجاهاتها وخياراتها، وتَعارُض أسلوب عملها.
4 ـ التسابق على الحقائب المسمّاة «سيادية» في الحكومة الجديدة على نحو يجعل المعارضة (وتحديداً عون) تطالب بحقيبتين هما الداخلية والمال لئلا تكونا في جعبة فريق الغالبية. ويبدو أن ثمة اتفاقاً بين عون والفريق الشيعي على الإصرار عليهما كي يتقاسماهما، الأمر الذي يصطدم طبعاً برفض قوى 14 آذار، التي ترى أن مثل هذا الإصرار ليس من باب التناوب على السلطة بل هو تصفية حسابات سياسية. وتربط الغالبية بين هذه المحاولة وجملة اتهامات وانتقادات كانت المعارضة قد ساقتها إلى 14 آذار، ربطت فيها بين إدارة سياسة مالية فاقمت التدهور الاقتصادي والدين العام وبين وضع اليد على قوى الأمن الداخلي.