نقولا ناصيف
قرارا حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، الاثنين الفائت (24 كانون الأول)، بوضع مشروعي قانونين، أحدهما دستوري لتعديل المادة 49 لانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، والآخر عادي لفتح عقد استثنائي لمجلس النواب، قوبلا بتحفظ عنيف لدى المعارضة. ورغم معرفتها بأن المشروعين لا يعدوان كونهما موقفاً سياسياً أكثر منهما إجراءين دستوريين قابلين للتنفيذ لإخراج الوضع الداخلي من مأزقه، فإنهما ينطويان ظاهراً على استعداد الحكومة للمضي بلا تردد باستخدام صلاحيات رئيس الجمهورية التي انتقلت إليها وكالة بعد شغور منصب الرئيس قبل أكثر من شهر. ويلاقي هذا التصرّف سابقتين مشابهتين للواقع الدستوري ـــــ والحكومي من خلاله اليوم ـــــ لكنهما تتناقضان في ردّ الفعل، وفي النتائج السياسية التي ترتبت على هذا التصرّف:
ـــــ أولاهما، الحكومة الانتقالية التي ترأسها قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري، ما بين 18 أيلول 1952 و30 منه، حينما استقالت للرئيس المنتخب كميل شمعون. حينذاك، مع انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى الحكومة الثلاثية برئاسة شهاب، آثر الأخير ألا يستخدمها في حدّها الأدنى. وهو إذ كان قد جمع المناصب الثلاثة الأهم في الحكم والسلطة، وهي صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وقائد الجيش، اكتفى بتوقيع المعاملات القانونية والإدارية، والحدّ الأدنى من تصريف الأعمال، وحاذر اتخاذ أي قرار تُشتَمُّ منه محاولة استخدام صلاحيات رئيس الجمهورية لأهداف سياسية، بما فيها خصوصاً وصوله هو إلى رئاسة الجمهورية ممسكاً بمقدرات هذا الوصول. بل لم يوقع شهاب ما كان قد طلبه قبل أيام من الشيخ بشارة، وهو إصدار عفو خاص عن الدنادشة تنفيذاً لوعد قطعه لهم قائد الجيش. وكانت لهذا الطلب الملحّ بالنسبة إليه مكانة خاصة لدى الجنرال. إلا أنه ترك للرئيس الجديد اتخاذ القرارات السياسية.
ثانيتها، الحكومة العسكرية الانتقالية برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون منتصف ليل 22 أيلول 1988 إثر انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، من دون انتخاب خلف له. حينذاك أقدم عون على اتخاذ قرارات سياسية مهمة، بينها تعيينات في مناصب أمنية حساسة كمدير المخابرات والمدير العام للأمن العام، على أنه ذهب في استخدام الصلاحيات تلك إلى الحد الأقصى بحلّه فجر 4 تشرين الثاني 1989 مجلس النواب قبل ساعات من التئام هذا المجلس لانتخاب الرئيس رينيه معوّض. وخلافاً لما آلت إليه حكومة شهاب بانتخاب هادئ لشمعون، رافقت حكومة عون حروب صغيرة وكبيرة، وأضحى الجيش، بفعل التدخّل السوري، جيشين، بعد انقسام الشرعية اثنتين وصولاً إلى عام 1990.
تبدو حكومة السنيورة اليوم أقرب إلى السابقة الثانية، وإن أوحى رئيسها، قبل ظهر 24 تشرين الثاني الفائت غداة انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، عندما زار البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير لطمأنته، بأنه سيستخدم الحدّ الأدنى لصلاحيات رئيس الجمهورية، وقد انتقلت إلى مجلس وزراء حكومته. إلا أن قراري الاثنين المنصرم يعبّران عن استعداد الحكومة للذهاب إلى أبعد من صلاحيات الحدّ الأدنى. وهي بذلك لا تشبه حكومة عون قبل 19 عاماً في هذا الجانب فحسب، بل كذلك في الطعن في شرعيتها. وكما عُدّت حكومة عون غير شرعية بعدما خرج منها الوزراء المسلمون الثلاثة، الضباط الكبار ـــــ وبعضهم عَلِم باستقالته من الراديو ـــــ وباتت فاقدة الشرعية التمثيلية، كذلك حال حكومة السنيورة اليوم تفتقر إلى الشرعية التمثيلية لخروج وزراء طائفة بكاملها من عضويتها، لا يزال رئيسها يعتبرهم غائبين. بل ثمة ما تلتقي عليه حكومتا عون والسنيورة، أنهما كلتاهما دستورية لانبثاقهما عند تأليفهما من مرسوم دستوري وقعه رئيس الجمهورية، وفي الوقت نفسه غير شرعيتين لخلوهما من التمثيل الوطني الشامل، ما خلا فارقاً مهماً لا يمثل بالضرورة أسباباً تخفيفية، هو أن حكومة 1988 لم تكن واقعة تحت أحكام الفقرة «ياء» من مقدمة الدستور التي تنزع الشرعية عن سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، على نحو ما هي عليه حكومة 2008 في ظل شغور رئاسة الجمهورية. وبسبب ما ترتب على حكومة عون عامي 1988 و1989، وخلوها من تمثيل إسلامي، جاءت الفقرة «ياء» في مقدمة الدستور لتملأ ثغرة هي في حجم أزمة كيانية وأزمة وطنية.فإلامَ رمت حكومة السنيورة باندفاعها الحاد في مشروعي الاثنين المنصرم، وإن بدت مبرراتهما محقة في الظاهر؟
بالتأكيد أنها تعرف أولاً أن أياً منهما لن يشق طريقه إلى النور من دون رئيس المجلس نبيه بري. لا مشروع تعديل المادة 49 سيقرع أبواب البرلمان وإن اتسم بدستورية لا لبس فيها مضموناً وشكلاً (لأنه بات لمجلس الوزراء بفعل انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إليه اختصاص إحالة مشاريع القوانين على مجلس النواب)، ولا العقد الاستثنائي سيلزم بري دعوة النواب إلى جلسة عامة لمناقشة المشروع الحكومي للتعديل. تالياً ما تحتاج إليه المشكلة السياسية هو الحل السياسي لا المخرج الدستوري. وقلب المشكلة هو موقف الموالاة والمعارضة من الحكومة أولاً وأخيراً.
وبالتأكيد تريد الحكومة، ثانياً، أن تعلن للملأ، في الداخل والخارج، أن انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إليها غير مجتزأ، بل هو كامل ويشمل الصلاحيات كلها دونما استثناء. وهي الخلاصة التي انتهى بها العالم الدستوري الراحل الدكتور إدمون رباط رداً على طلب استشارة من رئيس المجلس حسين الحسيني في 28 تشرين الثاني 1987 تتعلق بدستورية الوضع الحكومي في حال تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية. فأجاب رباط يوم 14 كانون الأول، بعد توسّعه في شرح المادتين 62 و74 من الدستور، بالآتي: «إن مجلس الوزراء هو الذي تتجسّد في كامل هيئته السلطة التنفيذية في حال خلو رئاسة الجمهورية «لأي علّة كانت»، ومنها عدم انتخاب خَلَف له، أكان ذلك في الفترة الدستورية المحددة في المادة 73 من الدستور أم بعد انقضائها، وذلك كله عملاً بالنص الجازم الوارد في كل من المادتين 62 و74 من الدستور».
وبالتأكيد تدرك حكومة السنيورة، ثالثاً، أن المقصود بملامستها الصلاحيات القصوى لرئيس الجمهورية لا يؤول إلى انتخاب رئيس جديد، بل إلى مزيد من التصعيد وتمديد عمر الشغور. إلا أنها تدق بذلك للمعارضة جرس الإنذار بأن التعثر المستمر لانتخاب الرئيس الجديد لا يبقي استخدام الصلاحيات الرئاسية في حدّها الأدنى. كل ذلك مع معرفة حكومة السنيورة أن استخدام الحدّ الأقصى للصلاحيات يظل عديم الجدوى والهيبة ما لم تطأ مشاريعها مجلس النواب ويصوّت عليها البرلمان.