جان عزيز
كيف نُبطل الوكالة السنية بحكم البلاد؟ هذه هي القضية اللبنانية اليوم، يقول أحد السياسيين من أصحاب الخبرة العتيقة في النظام والميثاق وتوازناتهما.
صحيح أن لتلك الوكالة المعطاة منذ عامين ونيّف أسباباً وعللاً خارجية، وهي تبدأ بأميركا المهجوسة بفكرة الصدام مع الإسلام أو الحوار معه، وتمر بالتركة الثقيلة لإدارة المحافظين الجدد السابقة، التي حملت واشنطن أكثر من عقدة ذنب موهومة في علاقتها مع العالم الإسلامي، لتنتهي بتوازنات منطقة الشرق الأوسط الكبير، وتناقضاته في دوله السبع والعشرين، من أفغانستان إلى المغرب.
مجموعة واسعة من الأسباب الإقليمية والدولية، جعلت في النهاية هذا التلزيم الأميركي ـــــ العربي للسنية السياسية بحكم لبنان، قائماً منذ اغتيال رفيق الحريري، وفي جوهرها مروحة واسعة من خلفيات السلوكيات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والإثنو ـــــ جماعاتية.
لكن ثمّة جانباً آخر للقضية نفسها، وهو الواقع اللبناني الداخلي الذي سمح بقيام هذا التلزيم، أو مهّد له عن وعي أو لا وعي. المسيحيون أمضوا ثلاثة قرون من عمر الإمارة ومن ثم الكيان والدولة، يشاركون في الحكم كأنهم مختلسون له، مغتصبون لمقاليده، وظلوا طيلة تلك الفترة يعيشون عُقَد النقص في مشروعية سلطتهم. حتى في ذروة لبنان الكبير والاستقلال والميثاق، ظلوا يغطون نقصهم اللاواعي هذا، بأساطير تأسيسهم للعروبة ومساهماتهم الموهومة في وجدانات المنطقة ومنطقها المركزي القومي. حدث هذا يوم كان للمسيحيين قادة ورجالات. فكيف في زمن ما بعد التصحير السوري لساحاتهم ومجتمعهم السياسي والمدني. هكذا بدا لهم من المنطقي أو حتى المستحَبّ، أن تُستعاد وكالة حكم الجبل إلى مستقرها الشرعي، في حضن أبناء الخلافة، في إطار السنية السياسية المستحدثة.
أمّا الشيعة، فكانت معضلة مواجهتهم مع «أزمة الوكالة» أكثر تعقيداً. هم الذين عاشوا على هامش النظام، وبالتالي في قلب ثوراته طيلة عقود. فجأة وجدوا أنفسهم بين عامي 1990 و2004، قد اختصروا مسافات من تحقيق ذاتهم الكيانية. لكنها فترة كانت مليئة أيضاً بعوامل الانتقاص من هذا الإحساس. فالوصاية كانت ههنا في عبئها ومفارقاتها، من مجزرة فتح الله إلى بريتال وعين بورضاي. وإسرائيل كانت هنا، في كونها حافز نضال، وفي ضبابية السؤال عمّا بعد المقاومة. وإيران كانت ههنا، في هذا النموذج الشيعي الصائب من المحاولة الأولى لقيام الدولة، في ظل فشل سلسلة طويلة من المحاولات السنية، في أكثر من منطقة من العالم وعبر عقود طويلة.
هكذا، وفي مكان ما من «المسكوت عنه» في المخيّلتين المسيحية والشيعية، كان ثمّة خجل أو حياء أو خفر أو أكثر، حيال الوكالة السنية بحكم البلد، فكان صمت، وكان إرساء الوكالة.
كيف العمل من أجل إبطال هذا التلزيم؟ قد يكون الجهد المطلوب، مثلّث المستويات، لكن بمضمون واحد. بحيث تتم مخاطبة السنية السياسية أولاً، واللبنانيين عموماً ثانياً، والعالم المعني بتلك الوكالة ثالثاً، على قاعدة أن ما يحصل اليوم لن يوصل إلاّ إلى الكارثة. ومضمون المخاطبة المطلوبة هذه، يكفيه الاستناد إلى هذه الخصوصية اللبنانية في تاريخيتها وواقعها الراهن. وإلى رفضها كل أشكال القفز فوقها، في غرابتها المسماة تعددية. ذلك أنه حتى الثنائيات فشلت في حكم لبنان، وعجزت عن ضمان استقراره. لا بل أدّت إلى انفجاره وسرعته. فها هي الثنائية المارونية ـــــ الدرزية قد انتهت إلى كوارث منتصف القرن التاسع عشر. وها هي الثنائية المارونية ـــــ السنية قد أدّت إلى انفجار عام 1975. وها هي الثنائية السنية ـــــ الشيعية قد أوصلت إلى ما بلغه الوطن في آخر عام 2004. صحيح طبعاً أنه في كل مرحلة من مراحل الثنائيات تلك، كانت ثمّة عوامل خارجية مؤجّجة للصراع، أو حتى مشعلة له، لكن الصحيح أيضاً أن منطق الثنائيات في صراعها البيني من جهة، وفي نهجها الإلغائي لما عداها من جهة أخرى، كان المادة القاعدية المؤسّسة للتدخل الخارجي، كما للانفجار في آن معاً.
والأهم في هذه القراءة، أن ليس الانفجار نتيجة الثنائيات المحتومة فحسب، بل إن الانكسار هو الحصاد الوحيد لأصحابه، فكيف إذا كانت السلطة الممثلة أحادية، بدل أن تكون ثنائية. فانفجار الثنائية المارونية ـــــ الدرزية منذ عام 1860، جاء لمصلحة السنّة، وإن تأخرت بلورته حتى مرحلة الدولة. وانفجار الثنائية المارونية ـــــ السنيّة سنة 1975، قطفه الشيعة، وكانوا قد ثمّروه فوراً لولا تغييب موسى الصدر ربما، أو ربما لذلك غُيِّب، فانتظر التثمير نحو عقدين. وانفجار الثنائية السنية ـــــ الشيعية في العامين الماضيين، كان يفترض أن يكون لمصلحة المسيحيين، لو لم تقرّر بعض مرجعيات هؤلاء ألاّ تتعلّم من أخطائها، وأن تكررها هي نفسها وعظاً وبكاءً ولوائح. ويبقى البعد الثالث، أنه مع انفجار كل ثنائية، يسقط في بيروت نفوذ راعيها الخارجي. هكذا سقطت مرحلة القناصل والانتداب والوصاية. فهل ثمّة من يخبر السنّية السياسية واللبنانيين والرعاة الدوليين، أن من مصلحة الجميع إقامة التوازن قبل خسارتهم هم قبل سواهم؟