strong>ثائر غندور
• غياب البرنامج حوّل الانتفاضة إلى «فرصة ضائعة» وملتقى مرشّحين

تعدّ 14 آذار لحظة مفصليّة في التاريخ اللبناني الحديث، إذ نزل مئات الآلاف إلى الشارع لرفض احتلال سوري للبنان استمر أكثر من ثلاثين عاماً، ولبناء دولة عادلة، وتمكنوا من اسقاط الحكومة. بعد أكثر من سنتين ونصف على هذه الانتفاضة، ماذا بقي من 14 آذار ومن مشروعها؟

يسهل جداً اكتشاف الفرق الكبير بين 14 آذار 2005 و14 آذار في السنوات اللاحقة عبر العودة إلى أرشيف الوكالة الوطنية للإعلام. ففي السنة الأولى لانتفاضة الاستقلال التي تحوّلت مع الوقت إلى ثورة الأرز، نزل مئات الآلاف من اللبنانيين لإحياء ذكرى مرور شهر على اغتيال الرئيس رفيق الحريري واعتصموا في ساحة الشهداء تحت شعار «الولاء للبنان والوفاء للرئيس الشهيد»، وخاطبتهم شقيقة الشهيد النائبة بهيّة الحريري بالقول: «لن نقول وداعاً سوريا أو شكراً سوريا بل إلى اللقاء، فالأشقاء لا يتباعدون، وسنكون دائماً إلى جانبها ونقف معها لتحرير أرضها».
وأعلن حينها الوزير مروان حمادة أن الانتفاضة الكبرى التي أطلقتها المعارضة (أي قوى 14 آذار) تحوّلت إلى ثورة شعبية عارمة من أجل الاستقلال، «ثورة تؤكد على الاستقلال والسيادة والقرار الحرّ، ترفض الوصاية والهيمنة وتدعو إلى علاقات نديّة متوازنة، تُسقط حكم المخابرات والأجهزة والتنصّت والابتزاز والسرقة، تحمي المقاومة حتى لو تنصلت أحياناً منا».
وأعلن الوزير غازي العريضي أن انتفاضة الاستقلال جاءت لترفض النظام المخابراتي و«لنقول إننا ضد القرار 1559 وضد التقسيم وضد تجريد المقاومة من السلاح».
تحدّث جميع أفرقاء 14 آذار في ذلك اليوم. من كان معارضاً حقيقياً لطريقة إدارة الشؤون اللبنانيّة طوال 15 عاماً، ومن كان حليفاً للنظام السوري، ومن كان معارضاً لتركيبة الطبقة السياسيّة والمستفيد منها، ما عدا جنرال التيّار الوطني الحرّ ميشال عون، الذي انقطع الاتصال معه من لبنان لأسباب لم تُعرف.
مر أكثر من عامين ونصف على تلك الانتفاضة الشعبية التي نزل مئات الآلاف من اللبنانيين فيها من أجل رفض الطريقة التي تدار بها الدولة اللبنانيّة ورفض الاغتيال السياسي، ومصادرة القرار الوطني لمصلحة التدخّلات الخارجيّة. انتفاضة دغدغت مشاعر الشباب اللبناني ودفعته إلى المبادرة لأنه رأى فيها وسيلةً لإعادة تشكيل السلطة والطبقة السياسيّة وفق مفهوم جديد يقوم على احترام المواطن لدولته وقوانينها.
لكن بعد أقل من أسبوعين من الانتفاضة بدأ هذا المواطن الذي آمن بأنّ هذا التحرّك هو ثورة حقيقيّة، بطرح الأسئلة. وربما كان الشهيد سمير قصير، وهو من أهم محرّكي الانتفاضة، الأجرأ والأسرع إلى طرح هذه الأسئلة في مقالة نشرها في جريدة «النهار» تحت عنوان «انتفاضة في الانتفاضة» في الأول من أيار 2005. قال قصير في مقالته إن السبب الأكبر للتململ «قد يكون في شعور المواطنين بأن لحظة الانتصار هي لحظة للقطف، وليست لحظة للتأسيس». ورأى أن من المعيب بعد هذه الانتفاضة، أن «يفكر هذا أو ذاك من الأقطاب بأسماء ارتبطت لنحو عقد من الزمن باستماتتها في الدفاع عن «تلازم المسارين» وتغييب الإرادة الوطنية في إدارة سياسة لبنان الخارجية والداخلية. أليس مريباً أن يشعر كل سياسي ماروني، مرة أخرى، بأنه مرشح للترشيح لمجرد كونه ولد في هذه الطائفة؟ أليس معوقاً لبناء دولة تحترم مواطنيها، أن يتم التسويق لمن لا يمكن اعتباره «معارضاً منذ أكثر من عشرة أعوام» أو لمن يحمل ترشيحه طابع التحدي؟».
وختم قصير مقالته تلك متوجهاً إلى قادة المعارضة بالقول: «أسئلة مبكرة؟ لا، أيها الرفاق في المعارضة، جدداً كنتم أم أقدمين، انزلوا الى الشارع تسمعوها، وتسمعوا معها نداءً عاجلاً إلى أن تبادروا إلى انتفاضة من نوع آخر، انتفاضة على الذات تفتح لحظة انتهاء وصاية حكم البعث على آفاق الدولة العصرية، دولة المواطنين لا دولة الرعايا».
وجاء اغتيال سمير قصير في الثاني من حزيران 2005، قبل أن تستطيع قوى 14 آذار وضع برنامج مشترك في ما بينها، لا بل كانت قد انقسمت على ذاتها، عبر تحالف جزء منها مع حزب الله وحركة «أمل» في ما سمّي حينها التحالف الرباعي. بقي ميشال عون وتيّاره خارج هذا التحالف، وخاض الانتخابات وحيداً وفاز بكل مقاعد جبيل وكسروان والمتن الشمالي (باستثناء مقعد تُرك شاغراً فربحه بيار الجميّل). ويوم الأحد في 12 حزيران صعّد النائب وليد جنبلاط خطابه ضد عون، وهو الذي لم يزره بعد عودته من المنفى، ليشبّهه بـ «التسونامي» ويرى أن فوزه بانتخابات دائرة بعبدا ـــــ عاليه، يمهّد لحربٍ أهليّة جديدة.
مثّلت الانتخابات النيابيّة محطّة أساسيّة لانفراط عقد 14 آذار، تلاها التفاهم الذي وقّع بين التيار الوطني الحرّ وحزب الله في السادس من شباط 2006. وبدأ التنازع بين «التيّار» وباقي مجموعات 14 آذار على التسمية. يرى الوطني الحرّ نفسه الوالد الشرعي لحركة 14 آذار التي بدأت بإعلان جنراله حرب تحرير على الجيش السوري في عام 1989، و«إقفال المرافئ غير الشرعية لضبط الأوضاع الجمركية ودخول البضائع إلى لبنان وتحسين الوضع المالي للبلد وفتح المنطقتين الغربية والشرقية بعضهما على بعض» حسب ما يقول عون عن حرب 1989. واستمرّ العونيون في إحياء هذه المناسبة على مدى أربعة عشر عاماً متصدّين لخراطيم المياه والقمع، واتهامات بالعمالة للأميركيين والإسرائيليينوكان عون قد قال إن «جماعة 14 آذار» في 14 آذار من هذا العام «أتوا وتبنّوا شعارنا، ونحن فرحنا بهم ولو أنهم أتوا في الساعة الأخيرة إلى الموقف السليم «سيادة حرية استقلال»، لكنهم لم يكونوا أبناء السيادة ولا الاستقلال ولا الحرية، كانوا أولاداً «بناديق». لم يكونوا أولاد الحرية والسيادة لأن نشأتهم السياسية حصلت إبان الوصاية السورية. بدأوا موظفين لا مسؤولين، وكانوا يرون الوجود السوري ضرورياً وشرعياً وموقتاً».
وقال ميشال عون في ذلك اليوم إن الفشل في إدارة الحكم سببه انتقالنا من الوصاية إلى الاستقلال «وليس هناك رجال استقلال في سدة الحكم، وذلك لأنهم تظاهروا ثلاث ساعات أو أربع ساعات في 14 آذار 2005، فيما نحتفل نحن اليوم بالذكرى الثامنة عشرة لـ 14 آذار صنعناه بنضالنا تحت القمع والتعذيب والتوقيف والاضطهاد الجماعي، وكان لجوؤنا إلى جمعيات حقوق الانسان كي نحافظ على جلد الناس من التعذيب وليس على حقوقهم السياسية».
في المقابل، ترى قوى 14 آذار في مقارنة بين 14 آذار 1989 و14 آذار 2005 منشورة على موقع تيّار المستقبل الإلكتروني، أن 14 آذار 1989 «عمل عسكري سمّي حينها «حرب التحرير»، قامت به مجموعة ميليشيوية تابعة للعماد ميشال عون («ميليشيا الجيش اللبناني») وجاء بعد رفض السوريين الموافقة على اسم ميشال عون رئيساً وجلب دمار المناطق المسيحية وضعف القوة المسيحية وعزلة دولية للمناطق المسيحية. بينما حركة 14 آذار 2005 «انتفاضة سلمية سمّيت «ثورة الأرز» قام بها الشعب اللبناني مؤلفاً من مليون وستمئة ألف نسمة وكانت ردة فعل شعبية لبنانية مسيحية وسنّية ودرزية والبعض من الشيعة الوطنيين، وجاءت بعد استشهاد رفيق الحريري المنضم حديثاً إلى المعارضة اللبنانية، وجلبت انتصار جزء أساسي من القضية المسيحية ودعماً دولياً للبنان ما زال مستمراً ومترجماً بقرارات دولية.
بالإضافة إلى ذلك لم تقم قوى 14 آذار بإحياء ذكرى انتفاضتها، باستثناء عقد اجتماعات لهيئة المتابعة في 14 آذار من كلّ عام تُصدر بيانات تقول فيها كلاماً سياسياً وتؤكّد «مواصلة مسيرة استعادة الاستقلال حتى إنجازه كاملاً، ومسيرة بناء الدولة الحديثة القوية العادلة، دولة الازدهار والحرية والعروبة الحضارية التي طالما حلم بها شهداؤنا وعبّدوا الطريق من أجلها. إن دماءهم لن تذهب هدراً. إن تضحياتكم أنتم لن تذهب سدى».
تبقى أسئلة سمير قصير لقادة الانتفاضة في البال، لكن لا بدّ من أن تضاف إليها أسئلة من نوع آخر: لماذا يغيب أي انتقاد من هذه القوى للتدخّلات الأجنبية من فرنسا إلى الولايات المتّحدة، لا بل يرون هذا الدعم محفّزاً لهم؟



المستاؤون والمنسحبون

لم يكن التيّار الوطني الحرّ الجهة السياسيّة الوحيدة التي اصطدمت بقوى 14 آذار وخرجت منها، بل هناك عدد آخر من الشخصيّات السياسيّة، منها: النواب مصطفى حسين ونعمة الله أبي نصر وفريد الخازن، النائب السابق مخايل ضاهر، السفير السابق سيمون كرم، نقيب المحامين السابق شكيب قرطباوي ورافي مادايان نجل الشهيد جورج حاوي لأسباب مختلفة. كذلك عبر النائب بطرس حرب والسيد كارلوس اده عن استيائهما دون أن يخرجا نهائياً. وخسرت 14 آذار الوجه العلماني فيها، عندما شارك النائب الياس عطا الله، ممثّل «اليسار الديموقراطي» في اجتماع «مسيحيي 14 آذار» الأخير.



لن ترهبنا الصواريخ

استعاضت قوى 14 آذار عن هذا التاريخ بيوم 14 شباط، فاجتمعت في عام 2006 بحضور تكتل الإصلاح والتغيير وكتلة الوفاء للمقاومة، تحت شعارات الاعتذار من «الشهيد رفيق الحريري لأننا لم نمحُ آثار الوصاية» والتأكيد أن «التغيير آت على كل الصعد ولبنان السيد الحر سينتصر» والعمل لتثبيت الحوار «كي لا نقع ضحية الأطماع الخارجية». وأعلنت هذه القوى أن روح التحدّي ستبقى متقدة لمصلحة استقلالنا، وأن لا سيادة وسلطةُ الجيش تقف عند حدود الضواحي والمخيمات.
وقدر عدد المشاركين بأقل من عدد المشاركين في تظاهرة 14 آذار، ثم انخفض العدد مجدّداً في 14 شباط 2007، حيث ساد خطاب معادٍ للمقاومة، حاول من خلاله الخطباء وضع جمهورهم في حالة الدفاع عن النفس من محاولات إبادة يقوم بها المحور السوري ـــــ الإيراني، «لن يخيفنا تهديد ولا وعيد، ولن ترهبنا الصواريخ أو المدافع».