عساف أبو رحال
السرايا الشهابية المأهولة في حاصبيا من أبرز المعالم التاريخية والأثرية في تاريخ لبنان الحديث. وتكمن قيمتها في أنها أكبر وأجمل قصر أثري في المنطقة الجنوبية لا يزال حتى اليوم مسكناً لبعض الأسر الشهابية التي تملك أجزاء منه. لكن مؤسسة World Monument Fund وضعتها العام الماضي على لائحة المواقع الأثرية العالمية المهددة

يرتبط تاريخ قلعة حاصبيا من جهة، بتاريخ الصليبيين في لبنان الذين بنوها، ومن جهة ثانية بتاريخ الأمراء الشهابيين الذين دحروا الصليبيين وبسطوا سلطتهم على حاصبيا وكلّ وادي التيم، لذا تطلق عليها تسمية «السرايا الشهابية».
يروي الأمير عصام الشهابي، الذي يناهز عمره ثلاثة أرباع القرن «يعود تاريخ بناء قلعة حاصبيا إلى ما بين عامي 1100 و1171 ميلادية، حيث بنى الصليبيون في تلك الحقبة قلاعاً عدة لحماية مملكتهم والدفاع عنها. فكانت قلعة الشقيف مثلاً موقعاً حربياً، أما قلعة حاصبيا فكانت حربية وسكنية في الوقت نفسه. وقد يكون موقعها سبباً لذلك، فهي تقع بالقرب من ينابيع الحاصباني على السفح الغربي لجبل حرمون، وتجاور سوق الخان التي كانت المحطة الرئيسة لقوافل التجار إلى الداخل السوري».
القلعة ضخمة ويتجاوز ارتفاع جدرانها 15 متراً، فيما يزيد قطرها على 500 متر. نحت البنّاؤون على مدخلها أسدين متقابلين مربوطين بسلاسل وأمامهما أرنبان طليقان. ويشرح الشهابي هذا النحت «هو إشارة الى العدالة الاجتماعية التي كانت تسود فترة حكم الشهابيين. فالأسد القوي مكبل بالحديد والأرنب الضعيف حرّ طليق».
ونجد فوق المدخل لوحة كتب عليها «ترميم السراي مما عمل برسم سيدي ومولاي الأمير علي الشهابي سنة 1900 هجرية».
بعد المدخل تمتد باحة عامة طولها ستون متراً وعرضها أربعون، يقوم حولها بناء أثري يحتضنها. والمدخل عبارة عن عقد صليبي يبلغ ارتفاعه نحو 32 متراً يقال إنه أعلى عقد صليبي في شرق المتوسط. وتتألف القلعة من ثلاث طبقات يقسم بعضها الى أمكنة سكنية وأخرى إلى أقبية. وهناك أيضاً طبقة سفلية كانت تستعمل لتخزين المؤن والذخيرة. يمكن الوصول الى الطبقة العلوية الثالثة عبر درج ضيّق يكشف نقوشاً وزخارف وألواناً تظهر مهارة في النحت قلّما وجد مثلها، أما زينة النوافذ والقناطر التي تكثر في هذه الطبقة، فتتبع كلها الطراز الهندسي العربي الإسلامي.
وتضم القلعة ديوان الأمير سعد الدين الشهابي، وهو فسيح يقع في الطبقة الثالثة، تتوسطه بركة ماء وتحيط به قناطر عربية مزخرفة بالنقوش، أرضه مرصوفة ببلاط من رخام، وأمامه زخارف صليبية تمثل أزهاراً كانت شعاراً لـ«آل بوربون» في فرنسا. أما الصعود إلى سطح السرايا، فعبر درج حجري لولبي ضيّق يؤدي إلى برج تظهر منه بلدات عين قنيا وشويا ومحلة زغلة حيث منازل الأمراء الشهابيين الصيفية، وإلى الغرب تظهر بلدة كوكبا ومجرى نهر الحاصباني.
ويقال إن الكونت أورا دي بوربون بقي محاصراً في هذا البرج مدة أربعين يوماً قبل أن يتمكن الشهابيون من دخول القلعة و«قطع رأسه» وإرساله إلى صلاح الدين الأيوبي في دمشق. أما قاعة ابراهيم باشا المصري فتقع في الطبقة الأولى من السرايا وسُمّيت باسمه لأنه سكنها عندما جاء الى حاصبيا لمحاربة الثوار بقيادة شبلي آغا العريان.
الأمير منذر، وهو أحد وجهاء العائلة الشهابية في حاصبيا، يملك جناحاً خاصاً في السرايا خضع لعملية ترميم حديثة. يضم هذا الجناح قاعة تعلو أحد جدرانها صورة للأمير بشير الشهابي الثاني وفيها يستقبل زواره. يقول: «قمت منذ بضع سنوات بترميم هذا الجناح حتى بات صالحاً لاستقبال الضيوف والزوار». وما يثير الدهشة أنه منذ وقوع هذه القلعة في أيدي الشهابيين شغلتها هذه الأسرة دون غيرها طوال العقود الماضية، وتتوزع ملكيتها حالياً على أكثر من 50 عائلة لا يسكنها منهم سوى قسم ضئيل مثل: المير فؤاد والمير منذر والمير مفيد والمير محمد، ويشدّد المير منذر على أن السرايا «معْلم أثري قديم يعاني إهمالاً وهو بحاجة إلى إعادة ترميم وصيانة» مطالباً مديرية الآثار بالمساعدةوعن تاريخ العائلة الشهابية يقول: «يعود تاريخ العائلة الشهابية الى قبيلة قريش من بني مخزوم، حيث كان لهم بيت المال وكانوا يمثلون وزارة الدفاع في تلك الحقبة، وبنو هاشم وزارة الأديان. وظهر جدهم خالد بن الوليد الذي ذاع صيته في معركة اليرموك. وعندما خير نور الدين زنكي الأمير منقذ الشهابي وعائلته الإقامة في أي منطقة رفض الأمير الشهابي الإقامة في المدن واختار الأرياف والقرى حفاظاً منه على الروح القتالية التي يمتاز بها أبناء قبيلته، شأنها شأن معظم القبائل العربية التي قدمت من سوريا وفلسطين لمحاربة الصليبيين. وعندما اختار الشهابيون منطقة وادي التيم واستطاعوا تحريرها من الصليبيين بعد خوض معارك عدة، تمت السيطرة عليها خلال النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي. وحافظ الشهابيون على المناطق التي سيطروا عليها وحكموها. وهي تمتدّ من وادي الحرير شمالًا حتى صفد وضفاف بحيرة طبريا في فلسطين جنوباً».
وتقول سهى شهاب ابنة الأمير مفيد المقيم في السرايا، إنها تعدّ لإقامة معرض أشغال يدوية وحرفية وتحف خشبية في ساحة السرايا في محاولة منها لإنعاش المكان اقتصادياً «خصوصاً أن أعمال صيانة القلعة تتطلب أموالاً طائلة». وتشير الأميرة الى أن عدداً من السفراء «كانوا قد زاروا السرايا في أعقاب التحرير واطلعوا على أوضاعها، لكن لم تظهر حتى الساعة أيّ إشارة إلى جهة تبني تكلفة عملية الترميم».
سرايا حاصبيا اليوم يلفها الإهمال من كل جانب، وجاء الاحتلال الإسرائيلي وأغرقها في عالم النسيان. فالسرايا التي كانت بالأمس القريب عامرة بعظمة رجالاتها وفرسانها، فضلًا عما كانت تمثّله من قبلة للسياسيين والطامحين، ها هي اليوم تستجدي الدولة ممثلة بوزارة السياحة، لكي ترفع عنها هذا الضيم التاريخي الحديث. ومن المعيب أن يقصدها السياح من العالم ليجدوا أن بعض معالمها تحول أرضاً خصبة لنمو الأعشاب البرية والطحالب بعدما بدأ الإهمال يقوّض بعض معالمها التاريخية، حيث جدرانها الخارجية وسقف الطبقة العلوية مصدعة في بعض نواحيها.
وكانت مؤسسة World Monument Fund قد صنفت في السنة الماضية قلعة حاصبيا على لائحة المواقع الأثرية العالمية المهددة، في محاولة منها لحثّ المجتمع المحلي واللبناني والدولي على حماية هذا الصرح التاريخي. لكن، مع الأسف، لم يلاق نداء الاستغاثة هذا أي صدى وبقي الشهابيون، ورثة القلعة يحاربون وحيدين من أجل بقائها بعدما تنصلت الدولة اللبنانية من مشروع ترميمها لأنها تقع ضمن الاملاك الخاصة. وها هم اليوم يحاولون بشتى الطرق تأمين المبالغ الطائلة لترميمها والمحافظة عليها، وخصوصاً أنها تعطي لحاصبيا هويتها وللجنوب ميزة خاصة.



تاريخ القلعة


بنى الصليبيون قلعة حاصبيا بين 1100 و1170 وكانت مركزاً عسكرياً دفاعياً وسكنياً لهم ولعائلاتهم. ومرّت القلعة بمحطات تاريخية أثرت سلبا عليها، فقد تعرّضت للحريق مرات عدة منها في عام 1284م حين دخلت جيوش المغول إلى سوريا وفلسطين سالكة طريق وادي التيم. وكذلك في عام 1612م. على أثر خلاف نشب بين أحمد باشا وأمير حاصبيا علي الشهابي. كذلك تعرّض قسم من هذا الصرح للتدمير في عام 1617 حينما أوفد الوزير العثماني محمد باشا جركس قوة عسكرية بقيادة حسين اليازجي إلى حاصبيا فدخل الجنود إلى القلعة التي كانت في حينها قد تحولت الى سرايا. وفي عام 1633م، حينما كان احمد كجك باشا يقود جنوده لمحاربة الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير، توقف في حاصبيا وأحرق العثمانيون القلعة ونهبوا البلدة.
لم تتوقف المآسي حينها، ففي عام 1660م. هاجمها والي الشام أحمد باشا، ثم أحرقت في عام 1671م في معركة بين الأمير فارس الشهابي وآل حيمور في البقاع الذين استنجدوا بوالي الشام العثماني. ولم تسلم القلعة من حوادث 1860م، فأحرقت السرايا وتهدم قسم منها، ولا سيما الطبقة العلوية، وقد أعاد الشهابيون ترميمها وهندستها لتأخذ شكلها الحالي.