أنسي الحاج
تحيّة

تحيّة أيّتها الحماسة
وداعاً أيّها العام وداعاً أيّها الخاص
وداعاً يا قِوانا
تحيّة أيّتها الابتسامة التي لا تزال تَقْبَل أن تزور وجهي، تحيّة أيّها التظاهر المُساعِد، أيّتها الأساليب الصديقة، أيّها الجيران البعيدون
تحيّة أيّها الوقت الجميل مستحمّاً بدمي ومُرْخياً لي دورةً تالية، تحيّة أيّها الوقت المعشوق في وجهكَِ، في جسدكَِ،
في ما يلغيكَ، في ما يُغلّبكَ، في ما يعطيك أيّها الوقت جمالَكَ الوحيد.
تحيّة يا جَلَبة الأصوات التافهة، الأصوات القبيحة، الأصوات الكاذبة، الأصوات القاتلة، تحيّة لأنكِ تملئين فراغاً هو أحياناً أفظع منكِ.
تحيّة أيّها القادمون، أينما أَخَذَتْكُم خُطاكم ستكون محسودة...



ظهور الخفاء

يقول علماء الفيزياء إنهم قد يتوصّلون خلال سنوات إلى تمكين الإنسان من التخفّي. هاري بوتر حقيقي. عبر اختبارات ضوء وظلال لا أَفهمها، كان الروائي الانكليزي هـ. ج. ويلز قد تخيَّل الأمر في إحدى قصصه. طاقيّة الإخفاء في حكاياتنا الشعبيّة. مَن لا يتمنّى ذلك؟ سيكون الخجولون أوّل المرحّبين، ففي الخفاء سيَظْهرون...



هذه اللغات

قبل أن تستهلكَ فيكَ جميع سمومك، كيف تريد أن تبلغ إكسيرها؟ «الشاعر هو حقّاً سارق نار، يقول رامبو في رسالة إلى أحد أصدقائه، إنه مكلَّفٌ من الإنسانية، بل حتّى من الحيوانات. عليه أن يجعل اختراعاته قابلة للشعور، للّمس، للسماع. إذا كان ما يعود به من هناك ذا شكل، يعطي شكلاً. إذا كان بلا شكل، يعطي اللا شكل. إيجاد لغة ـــــ على كل، بما أنّ كل كلمة هي فكرة، سوف يحين أوان اللغة الكونيّة! (...) بالانتظار، لنطلب من الشاعر شيئاً جديداً ـــــ أفكاراً وأشكالاً. الشُطّار جميعهم لن يلبثوا أن يحسبوا أنهم قد استوفوا هذا الطلب: ـــــ لكنّه ليس هذا!».
الشُطّار أيضاً عاجزون. مقدامون أحياناً ولكن على هواء. كُتبتْ منذ رامبو فصول طائلة من المغامرات التجديديّة. لم يَتْعب المقدامون، لكنّ «اللغة الكونيّة» لا تزال بعيدة.
ولا يزال الصمت هو تلك اللغة، وإلاّ فالموسيقى. السينما والموسيقى. الجسد (أي جنون الصمت)، وفنّ التعبير بأصوات الصمت الساحرة التي يعجز عنها الآخرون (أي الموسيقى) وصمت الذهول الطفولي (أمام شاشة السينما).
اللغات تَبَدّلتْ.
والأشياء (الأفكار) ألا تزال كما كانت؟ الموت موت والحياة حياة والعواطف ذاتها العواطف؟ المَشاهِد ذاتها المشَاهد؟ التجارب ذاتها، طعمُها ذاته التجارب؟
في العادة نقول نعم، هي ذاتها، وإن التعبير وحده يتغيّر مع الوقت.
هي ذاتُها؟ لا، لم تعد هي ذاتها.
الحياة تَغيَّرتْ.
لا أعرف كيف، ولكن الخوالد لم تعد خوالد. لسنا في أرض جديدة فحسب بل في حياة وموت جديدين. مَن لا يشعر بذلك لا يستطيع أن يجد اللغة المناسبة لذلك.
هذه اللغات، لغاتنا، هرمت مع تلك الحياة، حياتنا.
حياتنا السابقة.



ليس العكس

خاطب الموسيقيّون، قبل موزار، اللّه، وتوجّه موزار إلى البشر، عَبْر كل الآلات. لا باخ ولا فيفالدي، لا هايدن ولا هاندل كانوا إلهيين في موسيقاهم بل كانوا بَشَراً يجاملون اللّه. المتوجّه إلى البشر، موزار الفتى والشاب والذي مات في الخامسة والثلاثين ملفلفاً بالصقيع، خَلَق موسيقى إلهيّة. إلهيّة لا من حيث التوجّه بل من حيث النوعيّة. السماءُ تَسْكن الجمالَ وليس العكس.



كلمة

كلمة لحسناء: «ليس في الطبيعة لونٌ بجمال البَشَرة».



موجةُ شمس

مطلّةٌ كموجةِ شمسٍ بين جيش الموج الأزرق، خضراء بين الأبيض، بيضاء زرقاء عِنَبيّة تضحك حتى لا تترك المجال لمَن يَحْزَر موجبات جمالها.



الشاهد

الكاتب الذي يسمّي نفسه شاهداً يفترض أنه يتكلّم أمام شهود. قاعة ملؤها مراقبون، هذا يرصد هذا. إذا من كتابة حقّاً شاهدة فإنما تنشأ من عمليّة داخليّة تحميها العزلة. ما إن يتصرّف المرء على مرأى أو مَسْمَع حتّى يدخل التمثيل. في المطلق، الشهادة المجرّدة شبه مُحال. في الممكن، لعلّ الشهادة الفضلى هي اعتراف الروح قبل انصرافها.



بلاغة للبلاهة

أُدين بالعديد من عباراتي «الغريبة» لخطأ في التعبير. محلّ اخشوشنتْ استعملتُ اخشوشبتْ وعوض أن أقول، مادحاً، إنّ فلاناً كانت شجاعته أقوى ممّا يحتمل قلب بشريّ قلت: كان بلا قلب. أحياناً يذهب الخطأ أبعد، فيصبح ما أقول عكس ما أردتُ قوله تماماً. مرّة كنتُ أريد أن أصرخ في وجه شخص «انت ومصريّاتك على حذائي» فقلت بالصراخ ذاته «انت وكل اللي بتقولو ع راسي».. ليست هذه نكات بل وقائع.
للبلاهة بلاغة، ووظائفها شتّى. أقصد في التعبير، خصوصاً في المَطالع، حين يكون المبتدئ بالتعبير طريّاً ويكون لسانه أسرع من
عقله.



رنين الجواب

أكثر ما كان يستهويني، في المدرسة، العبارات القصيرة المقتطَعة من كلّ. ما زلتُ كذلك.
وفي الروايات الطويلة والشعر، وفي السينما والمسرح، وفي الأغنية والنقد والمقال، الأمر لا يختلف: جملة، كلمة، لحن، فكرة تسكن البال، وليأخذ الآخرون الأثر كلّه.
لا يُعفينا هذا من مطالعة الكتب بحذافيرها ولكنّه لا يمنعنا من الانخطاف أثناء القراءة بتلك اللوازم التي ستنحفر وتغدو جزءاً لا يتجزّأ من دورة الدم.
إنّنا لا نُعجب إلاّ بما يوجزنا. نكره، في الواقع، الكلام، ولا نستطيب غير شُهُب وصواعق في حبوب صغيرة لا يستغرق اختراقها إيّانا لحظة.
لحظة تُعمّر إلى الأبد.
الحياة تحتقر مَن يجاريها في بلادتها. الإنسان يردّ لها التحيّة بأحسن منها فيؤثر عليها ما يجعلها تبدو على حقيقتها: لحظة مشتعلة، عبارة مشرقطة تَنْهب المدى وترنّ تحت سقف السماء وبين أرجاء العقل وفي قعر القلب رنينَ أجوبةِ الإنسان على ما يُعذّبه. رنين الجواب الذي يرتفع بهاءً وعظمة فوق بهاء الخَلْق وعظمة الحياة.