جوزف سماحة
الناظر إلى المعارضة اللبنانية يرى أنها تواجه صعوبة في تحقيق برنامجها. تعيش نوعاً من مأزق يتمثّل بعدم القدرة على «الحسم». الناظر إلى الحكومة يرى أنها، هي الأخرى، في مأزق. فهي عاجزة عن الحكم. إلا أن الفرق قائم بين الحالتين. من طبيعة المعارضة أن تسعى إلى التغيير وأن تطالب بالمشاركة أو بالحكم كلّه. يمكنها أن تنال ما تريد كما يمكنها أن تفشل. لكن من طبيعة السلطة أن تحكم ولا يسعها أن تكون في موقع العجز عن ذلك. من هنا يمكن الزعم أن مأزق السلطة اللبنانية أعمق من ذلك الذي تعيشه المعارضة.
أولاً ـ استقال وزراء من الحكومة بينهم كامل الممثلين لطائفة رئيسية. وأدّى ذلك، برغم المكابرة، إلى فقدان الوزارة ميثاقيتها، أي، دستوريتها. الجدل الدائر على تمتّعها بثقة المجلس وقدرتها، بالتالي، على الاستمرار لا يلغي اعتراف أركانها بأن الخلل الذي تعانيه يعطّلها إلى حد بعيد.

ثانياً ـ تبدو الحكومة محاصرة برئيس جمهورية لا يتعاون وبمجلس نيابي لا يجتمع وقد لا يجتمع. لذلك فإن فتح دورة استثنائية لا يمرّ. والمراسيم مجمّدة. والتعيينات في البرّاد. وانتخابات المتن مؤجلة... ينتج من ذلك شلل ملموس في إدارة الشأن العام لا تردّ غائلته الادّعاءات المتكرّرة بامتلاك النصاب الكافي لعقد جلسات مجلس الوزراء. لا يمكن هذا الوضع أن يستمر طويلاً، سياسياً ولا دستورياً، وربما كان تراجع التحرّك الاحتجاجي سبباً في إظهار هذه المعضلة المتمادية.

ثالثاً ـ تعاني هذه السلطة ضيقاً فاضحاً في قاعدتها الاجتماعية. صحيح أن الديموقراطية يكفيها النصف زائداً واحداً، لكن لبنان «ديموقراطية» من نوع خاص. فعندما تكون طائفة بكل ممثّليها تقريباً خارج الحكم، وعندما تكون طائفة، بنسبة أخرى مهمّشة بأكثريتها، فهذا يعني أن النصاب السياسي مفقود برغم الاحتساب العددي للنواب. ويؤدي فقدان النصاب السياسي إلى ضعف ولاية السلطة على جمهور واسع لأنها، وإن لم تفقد شرعيتها، تكون، في نظره، فاقدة لمشروعيتها.

رابعاً ـ لنعاود التدقيق في ما حصل يوم الثلاثاء في مناسبة الإضراب العام (واستطراداً يوم الخميس). كان لبنان منقسماً بين مناطق لا سلطة فيها، ومناطق تماهت فيها السلطة مع القوى الأهلية بحيث أصبحت نافلة وفقدت استقلاليتها، ومناطق تماس اندلعت فيها المواجهات وشهدت فرزاً بين السلطة وأدواتها الأمنية. لقد أدّى ذلك إلى تباين بين المستويين السياسي والأمني وإلى حملة من «جماعة السلطة» على «أمن السلطة». وتكرّر الخميس مظهر من مظاهر الثلاثاء حين اضطرّت «الموالاة» إلى الحلول محل «الحكومة» في التصدي لمواطنين آخرين، لكن، ليتبيّن لاحقاً، أن السيطرة الرسمية على الوضع، عبر حظر التجوّل، تحتاج، ميدانياً، إلى توافق هو، بالضبط، التوافق الممنوع ضمن الحكومة. وحين يقول ركن أكثري إن تدخل «قواته» حال دون سقوط الأكثرية الحاكمة فإنه يكون، واقعياً، ينعاها وهو يحسَب أنه يؤكد استمرارها.

خامساً ـ تتصرّف الحكومة وكأنها ديكور لواجهة يفترض بها إرضاء «المجتمع الدولي». وهي تتعاطى مع هذا المجتمع على قاعدة الإعلان المتكرّر عن «النوايا الحسنة»: تطبيق القرار 1701، المحكمة، باريس ـــــ3. تفعل ذلك مدركة أنها لا تستطيع توفير شروط تنفيذ هذه التعهّدات في الداخل بفعل الأزمة المتعدّدة الجوانب. وهكذا يصبح لبنان أمام قرار دولي خاص بالجنوب يطبّق ميدانياً على خلاف ما تريده الحكومة. وأمام محكمة دولية نُشر نظامها في الجريدة الرسمية لكنها معلّقة. وأمام وعود إصلاحية في باريس ـــــ3 تنتظر موافقة المؤسسات الدستورية الأخرى. السلطة، هنا، افتراضية بالكامل. ولا يبدو أن الحكومة تملك حلاً سوى أن تنصب خيمة وتعتصم فيها على حافة... الدستور. لكن باتت مخالفة الدستور شرطاً من شروط الحكم! وفي انتظار ذلك ثمة معاندة مستمرة منذ صدور القرار 1559 مؤدّاها رفض الاعتراف بالقدرة على المواءمة بين التعهّدات للخارج وموازين القوى الداخلية، وبين طلبات الخارج وفقدان أدوات التنفيذ.

سادساً ـ تفاخر الموالاة بأنها تملك «الحكومة الأولى للاستقلال الثاني» (هنا تُستخدم الأرقام خلافاً للحملة الدعائية الخاصة بمؤتمر باريس). إذا سلّمنا بذلك جاز لنا الاعتقاد بأننا أمام «حكومة تأسيسية». إلا أن الغريب في الأمر أن هذه «الحكومة التأسيسية» تفتقر تماماً إلى أي خطاب جامع. فالقوى الداعمة لها لا تنطق إلا بما هو نابذ ومتوتر ورافض للرحابة والانفتاح. أين نحن، مثلاً، من خطاب ما بعد 43، ومن خطاب ما بعد «اتفاق الطائف». ففي هاتين الحالتين جاءت الممارسة الفئوية لتكذّب ادّعاءات التوحيد والمشاركة. ولكن، في الحالة الأخيرة، نبدأ أصلاً برفض التوحيد والمشاركة وندّعي أننا قد لا نصل إلى ما هو أسوأ.

سابعاً ـ القوى الداعمة للسلطة والحاملة لمشروعها هي قوى غير «دولتية». نعم، تيار «المستقبل» يمكنه أن يكون «دولتياً» إلا أنه غارق حتى الأذنين بسلوك ما دون وطني. أما التياران الآخران المركزيان في الموالاة فهما صاحبا تاريخ في قضم سيادة الدولة من تحت. يعني ذلك أننا في وضع يتم فيه التنازل عن السيادة لجهات تقضم سيادة الدولة من فوق (القضاء، الأمن، الاقتصاد، الوصاية السياسية...) في ظل مباركة من تيارات وأحزاب تأكل السيادة من تحت. يكفي أن نضيف إلى ذلك القدر المقترح من الخصخصة حتى نكتشف كم تضيق أو كم يمكن أن تضيق رقعة ممارسة الحكم.

ثامناً ـ في بلد، مثل لبنان، تؤدي الدولة دوراً مركزياً في السعي إلى توحيد المجتمع. إلا أن ما نعانيه في البلد اليوم هو الافتقار إلى عمود فقري تنهض الدولة حوله. لذا فإن المشكلة وطنية وليست فقط مشكلة حكومة أو مؤسسات. شكّل الموارنة، ذات مرّة، هذا العمود الفقري، ثم «نجحت» الوصاية في جعل الوضع ممسوكاً ولو أنه غير متماسك. أما حالياً فالوضع خطير. الكتلة التي يمثّلها رئيس الحكومة لم تستطع الإيحاء، حتى الآن، أنها ذات طاقة استيعابية. إنها كتلة تمارس الإقصاء («حزب الله»، «التيار الوطني الحر») أو الإلحاق. تتبنّى جوانب من خطاب «القوات اللبنانية» لكن على حساب التوق المسيحي إلى المشاركة في السلطة. إنها كتلة تريد أن تتناسى سلوكها التاريخي بكونها ممثلةً للأكثرية العربية في لبنان، مع ما يعنيه ذلك من أريحية وتسامح، من أجل أن تقلّد سلوك الأقليات لحظة إصابة هذه الأقليات بعُصاب توتيري.

تاسعاً ـ يمكن القول إن السلطة الحالية هي ابنة الزواج بين «الإرادة الدولية» و«حركة 14 آذار». أي بين «الإرادة الدولية» والانقسام اللبناني. وما حصل لاحقاً هو تفريغ «14 آذار» من قوى ومضامين وزيادة سطوة «الإرادة الدولية». لذا يمكن القول، بلا خوف المجازفة، إن نجاح السلطة في أن تحكم بات رهناً بانكسارين: انكسار القوى المدافعة عن المنطقة في وجه الولايات المتحدة وإسرائيل، وانكسار العلاقات الداخلية اللبنانية. في انتظار ذلك سيبقى الحكم معلّقاً إلى حد بعيد.