إبراهيم الأمين
حظي اللبنانيون بأسبوع من الهدوء النسبي. لم يخفف من شبح الحرب الاهلية الباردة غالباً، الذي تعرض لعملية تسخين بين الوقت والآخر. كان هو أسبوع بندر بن سلطان، الذي تنقل بين الرياض وطهران وموسكو وواشنطن قبل أن يحط في باريس. كان المسؤول السعودي (الاميركي الأصل والفصل) يعرف جيداً من أين تؤكل الكتف. وهو ليس في حاجة الى دبلوماسية المجاملات التي لن يقبلها منه أحد. وهو المعروف بأنه صاحب الموقف المؤيد لسياسات الولايات المتحدة في المنطقة والمعارض بقوة لا ينافسه عليها أحد في بلاده لما يسمّيه الخطر الايراني على العالم العربي. ولذلك، فإن محادثة خصمين يعرفان بعضهما جيداً، كان من المفيد بمكان أن تسقط ما يعرف بدبلوماسية الاوراق المستورة. وبرغم ان لبنان حظي بمرتبة عنوان جولته الاخيرة إلا أن مضمون النقاش والمبادرات والتفاهمات يتصل بالدور الاقليمي لكل من السعودية وإيران وسوريا.
أدرك بندر ومعه السعودية، وهو كلام قيل في حضرة من يهمه الامر، أن انفجار الوضع في لبنان يعني أشياء كثيرة، بينها امتداد الأزمة نحو اماكن اخرى، وأن السعودية تعرف انها ستكون مسؤولة عن جانب من هذا الانفجار، وأن مشروعها باحتضان الفريق الحليف لها وفي مقدمته السنة، كما يقوم بندر، سوف يعني أنها في مواجهة الآخرين، وتحديداً مع الشيعة، سواء في لبنان أو في السعودية نفسها أو في بقية دول الخليج، إضافة الى المواجهة الاصعب مع إيران. وفي هذه اللحظة تدرك السعودية أن الامور تغدو كثيرة التعقيد حتى لو كان العالم كله بجانبها. وهذا الواقع تشعر به طهران أيضاً، التي لا تبدو قليلة القلق ازاء انفجار سني ــــــ شيعي في لبنان يضاف الى ما هو قائم في العراق وما يمكن أن يطيح كل شي في المنطقة، ويدخلها في معركة كبيرة مع العرب هي ليست في واردها او صاحبة مصلحة فيها. وهذا القلق المتبادل او تقاطع المخاوف هو الذي يفتح او فتح الباب أمام ما عرف بالمساعي السعودية ــــــ الايرانية، لكن الطرفين يعرفان أن من بيده الامر ليس في هذه المنطقة، وما تريده السعودية من إيران وتالياً من سوريا بشأن لبنان وفلسطين والعراق لا يتصل بمصالحها فقط، وأن المقايضة لا تتم معها بل مع الولايات المتحدة الاميركية، كما أن إيران وسوريا تعرفان أن ما تحتاجان إليه من ضمانات بعدم الاعتداء لا يمكن أن يأتي من السعودية ولا من أي دولة في المنطقة بما في ذلك اسرائيل، وأن الأمر رهن ما تقرره الولايات المتحدة الاميركية، ومعها دول في اوروبا.
وفي هذا السياق حمل بندر ما جمعه من أفكار وهواجس وتصورات وقصد الولايات المتحدة عارضاً ما هو منطقي وواقعي: إذا كانت الولايات المتحدة الاميركية تريد من إيران وسوريا مساعدتها على كبح خسائرها في العراق وفلسطين ولبنان فعليها أن تكون مستعدة للمقايضة، ولا يمكن لواشنطن ان تطلب من ظهران ودمشق إلقاء ما في أيديهما من أوراق ثم تدعوهما الى طاولة اللعب. سابقاً قال محمد حسنين هيكل عن حافظ الأسد إنه يجيد جمع اوراق اللعب، لكنه في لحظة يعمد الى جمع الورق كله في يده فلا يبقي لبقية اللاعبين ما يرمونه على الطاولة، وهي حال الاميركيين الآن، ما ترجمته واشنطن لبندر أنها غير قادرة على التراجع في ملاحقة الملف النووي الايراني، وهذا كفيل بإبقاء الامور مشتعلة، ثم إنها تريد إسقاط نظام بشار الأسد أو إخضاعه لابتزاز المحكمة الدولية، وهو ما يعني أن لا توافق قريباً مع سوريا. وفي الحالتين ليس بإمكان السعودية المبادرة من تلقاء نفسها الى اتفاق جزئي مع إيران وسوريا بما يحيّد لبنان عن موجة انفجارية لا تهتم واشنطن لأمرها لا الآن ولا في أي وقت لاحق.
ولم يدم إحباط بندر من الأجوبة الاميركية طويلاً، حتى تبيّنت له صعوبة تكريس التفاهم الاولي على تأليف حكومة جديدة في لبنان من شأنه إفساح المجال أمام تهدئة طويلة الأمد تتيح توافقاً على الامور الاخرى لاحقاً، ما دفع الى تعديل في وجهة الكلام، فسمع الرئيس نبيه بري (برغم حرصه على عدم إطلاق النار على المساعي السعودية ــــــ الايرانية) كلاماً فيه تراجع عن التفاهم الذي يشمل الحكومة ويدفع بأمر المحكمة الدولية الى ما بعد انتهاء التحقيق. وهو التراجع الذي لم يتأخر سعد الحريري في ترجمته هجوماً على بري وتحميله، ومن خلاله المعارضة، مسؤولية تعطيل إقرار المحكمة الدولية، والتقدم خطوة الى الامام من خلال مراسلات الرئيس فؤاد السنيورة الى الامين العام للأمم المتحدة التي تشير الى ان غالبية اعضاء مجلس النواب يرغبون في إقرار المحكمة ولكن هناك من يمنع ذلك، ما يفتح الباب امام امرين: الاول يتصل بموقف دولي متدحرج من المجلس النيابي وصولاً الى اعتبار عدم انعقاده مخالفة للشرعية الدولية، والثاني يتمّم الاول من خلال مبادرة المجتمع الدولي عبر مجلس الامن الى القيام بما يفترضه دوراً أساسياً ويعمد الى إقرار مشروع خاص بإنشاء المحكمة دون الرجوع الى المؤسسات الدستورية اللبنانية، الأمر الذي له نتيجة واحدة: تسريع انتقال لبنان نحو الخراب.
وكان الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى الذي لم يبتّ بعد موعد قدومه الى لبنان قد قال سابقاً إن المحور الرئيسي لتنشيط الاتصالات والتوصل الى حل أو العكس هو خلاصة المداولات بشأن المحكمة الدولية، وقال بوضوح اكبر، إن هناك تفاهماً ممكناً على تأجيل ملف المحكمة وتحوير وجهته من مضر باستقرار لبنان وسوريا الى منشط ورافعة لعلاقات لبنانية ــــــ سورية سليمة، لكنه لم يخف أن الامر كله بيد الولايات المتحدة الاميركية.
على اي حال، ثمة أيام قاسية تنتظر لبنان، وثمة حاجة اكثر من اي وقت الى مراجعة تبدأها قوى المعارضة بغية تحديد وجهة السير في المرحلة المقبلة، وكل محاولة للصعود اكثر الى اعلى الشجرة لن تفيد ولن تقوّي الاغصان التي قد تنكسر بمن عليها في لحظة لا يقدر أحد بعدها على لملمة أحد، لا ممن بقي فوق الشجرة ولا ممن وقع وتكسرت أضلاعه.. وعدم انتظار وصول الفتنة القاتلة التي لن تبقي شيئاً. وهذه المرة لا يمكن انتظار المبادرة من أي جهة ما عدا فريق المعارضة وقيادتها المتمثلة بحزب الله والتيار الوطني الحر.