جوزف سماحة
في مشهد من فيلم أميركي يقول مذيع تلفزيوني لزميلة له في المهنة منبّهاً إياها من الميل الذي تبديه حيال مذيع آخر «احذري الاعتقاد بأن الشيطان إذا ظهر عليك فسيظهر بشكل كائن أخضر الجلد وأحمر العينين وذي ذنب. كلا، سيكون شخصاً مهذّباً، ناعماً، ودوداً، لكنه حالما يشعر بأنه تملّك منك يبدأ، تدريجاً، بخفض مستوى القيم والمعايير التي تلتزمينها».
هناك، بين السياسيين اللبنانيين والمروّجين لهم، من لا يفعل سوى خفض مستوى القيم والمعايير وتجريد أي نقاش من أي همّ أخلاقي.
لنستحضر بعض ما قيل في حق «حزب الله» عشية بدء تحرّك المعارضة وطيلة فترة الاعتصام. هذه عناصر استُخدمت في السجال: لقد أخلى الحزب الجنوب وحوّل المقاتلين إلى معتصمين. ها هو يحاصر بيروت ومداخلها كما سبق للعدو الإسرائيلي أن فعل. لقد تحوّل إلى حاجز يمنع لبنانيين آخرين من المساهمة في تحرير فلسطين. يريد استكمال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. تضاف الخسائر التي يسبّبها إلى الخسائر التي أنزلها العدوان. لقد تناسى مزارع شبعا نهائياً وبات همّه إسقاط السرايا. أصبح فؤاد السنيورة خصمه بدل إيهود أولمرت. أدار سلاحه نحو مواطنيه بدل توجيهه نحو العدو. يجب إفقاده كل وهج عربي وإسلامي عقاباً له على افتعال الفتنة...
كانت هذه المطالعة تتردّد على ألسن لا يرفّ لأصحابها جفن ولا يهتمون إطلاقاً بواقع أن ما يعيشه لبنان أزمة جديّة لا تحتمل هذا الهزال. إلا أن فقدان الروادع يحرّر الضمائر، وما دامت الحجّة مفيدة فلا بأس من استخدامها لأن القصد هو التعبئة لا الإقناع ولأنه لا أحد يسأل أو يحاسب. كل ما هو مطلوب إظهار قدر من الجدّية، ورفع المنسوب اللفظي للوطنية أو القومية أو الحسّ الإسلامي بالواجب، ولوم المقاومة النبيلة على تحوّلها إلى ميليشيا في أزقّة بيروت.
الجهة التي تبث هذه الشعارات وهذه الحملة هي نفسها التي وجّهت اتّهامات معاكسة لهذه المقاومة. لا بل إن الأشخاص هم أنفسهم وأحياناً في مقابلة تلفزيونية واحدة. لقد كنا شهوداً، على امتداد أسابيع، على التأرجح بين ما تقدّم وبين هجمات تعتمد منطقاً معاكساً تماماً.
وحسب هذا المنطق فإن «حزب الله» إنما يحاول السعي إلى عرقلة تنفيذ القرار 1701. وهو يهدّد «القوات الدولية» القادمة إلى حماية لبنان وتكوين حاجز بينه وبين إسرائيل. لا بد، والحالة هذه، من الإصرار على اتفاقية الهدنة وعلى اتفاق الطائف بما يتضمّنه من نزع لسلاح الميليشيات. إن المطلوب تحييد لبنان ومنع البؤرة الجنوبية من أن تكون وسيلة تفجير خدمة لمحور إقليمي. لقد أخطأت المقاومة عندما انفردت بقرار الحرب وهي مخطئة تكوينياً بفعل فئويتها والخوف الذي تثيره عند سائر اللبنانيين. لقد سقطت نظرية الردع نهائياً ولم يعد باقياً سوى تسليم السلاح، والانخراط في العمل السياسي، وإيداع المطالب اللبنانية من إسرائيل في عهدة حكومة تحسن استخدام الوسائل الدبلوماسية، وتستفيد من صداقاتها الدولية. تكفي الخسائر الاقتصادية التي لحقت بالبلاد بسبب مقاومة مديدة. إن كل طلقة على إسرائيل تسبّب هجرة المئات ومع ذلك هناك من يصرّ على أنه حقّق إنجازاً ضد العدو في الصيف...
يمكن الزعم أن الأطروحات الأخيرة هي التعبير الأكثر دقّة عن السياسة الفعلية التي تمارسها السلطة والتي لا تتورّع، حماية للنفس، عن اللجوء إلى كل ما في قاموس التشهير من مفردات. أي إن الجهة التي لا تستطيع تخيّل لبنان إلا خالياً من المقاومة هي نفسها الجهة التي شنّت الحملة الأشدّ عنفاً على المقاومة لأنها اعتزلت الكفاح المسلح، وباتت تتلهّى بالصغائر، وتخلّت عن مهمتها الجوهرية في مقارعة العدو الإسرائيلي.
لقد أوصلت أطراف في الموالاة هذا التناقض إلى ذروته. إلا أننا نرى أن هذه الملاحظة لا تنطبق على أطياف الموالاة كلها. وتقضي الحقيقة القول إن «القوات اللبنانية» مثلاً لم تقع في مثل هذه الورطة. لا بل ربما هي نظرت، ومعها جمهورها، إلى هذا الخطاب المتناقض بصفته مصدر إحراج ودليلاً على أن «الثورة الثقافية» الحاصلة في بيئات أخرى لم تصل إلى نهايتها بعد.
ثمة قوى في الموالاة تخصّصت في ترداد هذا الخطاب المزدوج لأنها قوى حديثة العهد نسبياً بالموقع السياسي الإقليمي الذي تحتله وتحاول أن تتأقلم معه، وتنتج له كلاماً مناسباً. وهذه القوى تبحث عن «راحة ضمير» من أجل أن تجد تبريراً لنفسها فتلجأ إلى ماضيها القريب وإلى ذاكرتها الطرية من أجل أن تستعير منهما ما يخفّف عنها وطأة «الانحراف» الذي تدرك أنها موغلة فيه. لا يمكن هذه القوى، حالياً، أن تقف ضد المقاومة إلا بإقناع النفس، والجمهور، بأنها هي المقاومة الحقيقية وأن هناك من غادر «الدشم» في الجنوب إلى «الخيم» في بيروت ملقياً عليها، وفي وجهها، أعباءً إضافية.
يمكن القول إن هذا الخطاب هو خطاب المرحلة الانتقالية، وهو خطاب قضاء الوقت في انتظار استكمال عملية تغيير الجلد. إنه خطاب هجين بالضرورة ومحكوم بالتفارق الذي نلاحظه لدى سائر «المعتدلين العرب» تمييزاً لهم عن نوع من «الاعتدال اللبناني» العاجز، بنيوياً، عن استخدام عبارات ومفردات معيّنة.
كان لا بد من التوقف عند هذه المفارقة مع عودة قدر محدود من «الحرارة» إلى الحدود الجنوبية. إذا قدّر لهذه الحرارة أن ترتفع، وإذا وجد «حزب الله» نفسه مضطرّاً إلى التعاطي مع الخروق الإسرائيلية فإننا سنشهد انقلاباً في الموقف.
قد يحاسَب كل الذين شهّروا بالحزب بداعي تخليه عن المقاومة...
قد يزداد الضغط عليه ليبقى حيث أراد إلا في مواجهة إسرائيل...
قد يصبح إنهاء الاعتصام ورقة في يد المعارضة...
سيخرج من يقول، وهؤلاء معروفون بالاسم، إن الحزب «الهارب» من مأزق الجنوب إلى مأزق بيروت يعود إلى «الهرب» من مأزق بيروت إلى مأزق الجنوب.
وهكذا قد نشهد خفضاً جديداً للمستوى الأخلاقي الواجب توافره في أي نقاش وطني.