جان عزيز
بين خبر توقيع الأمانة العامة للأمم المتحدة نظام المحكمة الدولية، وارتقاب الذكرى السنوية الثانية لجريمة 14 شباط 2005، ثمة حضور قوي جداً في دبي، لرفيق الحريري، كما للفريق الوارث له بعد اغتياله. ذلك أن ذاكرة الأوساط الخليجية، وخصوصاً ذاكرة الأوساط اللبنانية في دبي، زاخرة بالمعلومات والتفاصيل والأسرار والقراءات. والأهم أن جزءاً من هذه الذاكرة يعيد إلقاء الضوء على ما سبق، فيما جزء آخر يشي ببعض المستور من أحداث اليوم.
أوساط خليجية واسعة الاطلاع، لا تنفك تسأل الآتي من بيروت، عن طبيعة الائتلاف الذي اسمه «فريق 14 آذار». ما الذي يجمع بين شخصياته؟ كيف تبدلت اقتناعات مكوناته؟ وكيف الرهان على استقرار مثل هذه الطبيعة الهجينة، وبالتالي استمرارها؟
وتكرّ لائحة الاستذكار: تروي الأوساط نفسها أنه عام 2003 كان الحريري رئيساً للحكومة في لبنان، وكان في دبي سباق سنوي للقوارب. دارت الاتصالات والمساعي، لترسو على رغبة متبادلة بين المنظمين هنا وبين أهل السرايا الكبيرة في بيروت، ليكون السباق المذكور برعاية الحريري. أجريت الترتيبات اللازمة وبدأت التحضيرات. فجأة خرج أحد اللبنانيين العاملين في دبي بمعركة شرسة للحؤول دون حصول المناسبة، طارحاً رفضه ورفض من يمثّل للفكرة، ومصرّاً على ألا يكون السباق برعاية الحريري، بل برعاية إميل لحود بالذات. وذلك على خلفية دعم رئيس الجمهورية في معركته ضد رئيس حكومته، عام 2003 وعام 2004 وفي السنوات التي تليهما. وكانت كلفة الرعاية، وبالتالي استبدالها، نحو 250 ألف دولار، أكد «المدافع الرئاسي» استعداد فريقه لتوفيرها... وتروح الأوساط نفسها تسترجع الوثائق التي في حوزتها عن الواقعة، والرسائل المتبادلة والمواقف المثبتة بأقلام المعنيين وتواقيعهم... قبل أن تختم بمغزى «السالفة»، وخلاصتها أن اللبناني نفسه الذي خاض المعركة لمصلحة لحود ضد الحريري قبل أقل من أربعة أعوام، تحوّل بعد سنة ونيف فقط، مرشحاً على لائحة حريرية شمالية بامتياز، وهو نفسه اليوم ناطق حزبي مفوّه، من مسيحيي فريق 14 آذار، متخصص في قصف لحود وتمديده غير الشرعي.
يسأل أهل دبي عن مثل تلك المفارقات، قبل أن يعرضوا لاغتيال الحريري. يتحفّظون عن التحليل والاستنتاج، لكنهم لا ينسون يوم 14 كانون الأول 2004. كان رئيس الحكومة الراحل قد خرج لتوه من السرايا، بعد اقتراعه مع فريقه للتمديد للحود، وبعد الصراع على تأليف الحكومة الأولى لنصف العهد الجديد. في ذلك النهار اختار الحريري أن يحل ضيفاً في دبي على المنتدى الاقتصادي العربي. وقف خطيباً، وفي الصف الأول من الحضور الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، وخلفه حشد من أعضاء مراكز الدراسات في واشنطن. حوّل الحريري كلمته من تطورات بيروت الى أحداث بغداد، التي كانت تتحضّر لانتخاباتها العامة «الأميركية» الأولى. ووسط مفاجأة الجميع، أطلق الحريري سلسلة انتقادات للإدارة الأميركية للملف العراقي، وخصوصاً لقانون الانتخابات المجحف في حق «بعض» الجماعات العراقية. فمال أحد الجالسين في الصف الثاني خلف كلينتون الى أذن جاره هامساً: الأكيد أن ثمة من لن يعجبه هذا الكلام في واشنطن...
وتتابع أوساط دبي كلامها على لبنان والحريري، لتكشف أن ثمة فعلاً ما كان موضع اتصالات واستفسارات بين جهات خليجية رسمية، ولجنة التحقيق الدولية في جريمة 14 شباط 2004. هل صحيح، إذاً، أن بعض دول المنطقة معني بلائحة الدول العشر غير المتعاونة مع اللجنة في تحقيقاتها؟ تسارع الأوساط نفسها الى النفي، كاشفة أن المسألة الوحيدة التي كانت موضع بحث جدي في هذا السياق، هي تلك المتعلقة بإحدى المافيات الأوروبية، وخصوصاً بأحد زعمائها من مالكي شبكة طائرات مشبوهة، وذلك في إطار التدقيق في طريقة انتقال سيارة الـ«ميتسوبيشي» الآثمة، من اليابان الى لبنان، عبر إحدى دول الخليج. وبذلك تؤكد الأوساط نفسها صدقية التحقيق الذي كانت «الأخبار» أول من أشار إليه في تحقيق نشرته قبل أسابيع. لكن الأهم أن الأوساط نفسها تؤكد بذلك أن نظرية دخول مافيا دولية ما، على خط اغتيال الحريري، على الأقل لجهة نقل السيارة الجانية، هي إحدى الحلبات التي يحاول التحقيق سبرها.
ولا تنسى الأوساط الخليجية نفسها التعليق ختاماً على نهج الحكم في بيروت اليوم: هل يعقل أن يبادر بعض جهات السلطة اللبنانية اليوم، ومن خارج القنوات الرسمية والقانونية، الى الطلب بإلحاح من جهات خليجية رسمية، مراقبة أنشطة بعض اللبنانيين المقيمين على أراضي الأخيرة، لمجرد أن هؤلاء من المعارضين للفريق الحاكم في لبنان؟ هل يعقل أن تبلغ المطالبة أحياناً حد الإصرار على استدعاء هؤلاء أو التضييق عليهم أو إفهامهم بضرورة التخلي عن اقتناعاتهم المعارضة والامتناع عن دعمهم للسياسيين المعارضين؟ وهل هذا ما يحصل فعلاً؟ تؤكد الأوساط نفسها في دبي أن الطلبات فعلاً قد وُجّهت وتُوجّه كل يوم، غير أن السلطات الرسمية في الدول الخليجية لم تتجاوب معها، ولم تلبِّ مطالب أهل السلطة في لبنان لحسن الحظ، وهو ما يسجل حقاً لمصلحة أنظمة هذه الدول، وما يجب أن يسجل على سلطة بيروت. لكن الأكيد أن أشخاص هذه السلطة يملكون مناعة ما، حيال كل تسجيلات الماضي والحاضر، فماذا عن المستقبل؟