جورج شاهين
في نهاية الساعات القليلة التي فصلت بين بدء التجمع الشعبي في جزء من ساحة الحرية، والساحات المحيطة بها والطرق التي حشر فيها الناس حشراً، وبدء تفرقهم قبل انتهاء الكلمات (التي طالت) في الذكرى الثانية لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري، يمكن اختصار المشهد بالقول «إن الأمن الأمني كان مؤمّناً... أما السياسي فعلامة استفهام كبيرة؟».
هذه القراءة السريعة والمختصرة للمشهد، فيها الكثير من المعاني، والوقوف عند شكل الاحتفال ومضمون الكلمات يؤكد الكثير مما كان مقروءاً سلفاً حول الذكرى، فلم يكن هناك من ينتظر اهتزازاً أمنياً أو عنفاً، وخصوصاً بعد عمادة الدم في اليوم الذي سبقها، عندما تطايرت أشلاء ضحايا عين علق. عدا الأجواء السياسية التي عبر عنها المعارض والموالي معاً تجاه الذكرى، بعدما أعطت الرسالة المفتوحة التي وجّهتها السيدة نازك الحريري، من بعد، إلى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. وجاءت التحية بالمثل من الكثيرين من زعماء البلد وسياسييه، إلا أولئك الذين هالهم أن تمر الذكرى من دون دم بريء يهدر في الوقت الضائع بين مشروع للحل وآخر يبدو أنه على الوسطاء أن يبتدعوه بالعودة الى النقطة الصفر.
وعلى هذه الخلفية مرت الذكرى، وانتهت بضرورة الوقوف عند حجم المشاركة الطائفية والمناطقية، فكاد الحضور المسيحي يساوي الحضور السني، لولا قرب بيروت السنية الى ساحة المهرجان والحضور الكثيف من عكار والضنية والبقاع الغربي وإقليم الخروب، وظهرت للعيان ضآلة المشاركة الدرزية باعتراف رؤساء الوفود، والتي عزاها البعض منهم الى اضطرارهم سلوك كل الطرق الجبلية دون الساحلية لأنها غير آمنة، وذلك على عكس حضور الأعلام الاشتراكية الحمراء على كثافتها التي ظهرت إلى جانب أعلام المستقبل والكتائب والقوات اللبنانية التي فاقت الأعلام اللبنانية على عكس ما كان مقرراً.
وفي الخطاب السياسي، توقفت القراءات عند مضمون البعض منها، فلاحظت، من دون عناء، فوارق كبيرة فيها وفي نبرة أصحابها والخلفيات، فأكدت على التمايز الكبير في الخطاب السياسي بين أطرافها، ما يوزع التصنيف بين هادئ متزن يفسح المجال أمام الحلول التي لا بد منها في النتيجة، وآخر مسؤول، لرجل دولة، يخاف على ما سيكون عليه الوضع في اليوم التالي، رغم الجرح العميق الذي أصاب فلذة الأكباد والأبناء، وفئة ثالثة لم تترك للصلح مطرحاً واستخدمت عبارات لم يعهدها القاموس السياسي في لبنان من قبل، لما حملته من شتائم وعبارات نابية انتهكت مواثيق الشرف حماية للسلم الإهلي وإبعادا للفتنة ومنع استدراج العواطف بلا ضوابط العقل والمنطق، من دون أن ننسى فئة أعطتها مكبرات الصوت أحجاماً أكبر من أصحابها في أدوارهم الموسمية، وكأنهم نسوا تماماً ذكريات الأيام السوداء في التاريخ اللبناني الحديث، ولا سيما ما حفرته أحداث الثـــلاثـــاء والخمـــيس الأسودين.
على كل حال، لم توفر القراءة المنظر المشين لـ«حائط برلين» الكهربائي، الذي كان قائماً بين نصفي الساحة، ما بين «ساحة الحرية» و«ساحة الشهداء»، وليته كان بإمكان وسائل الإعلام أن توفر للمشاهدين صورة جوية للاحتفال حتى يتثبّتوا من أن الانقسام اتخذ أمس منحى تقسيمياً بعيداً من إرادة أكثرية اللبنانيين التي لم يتح لها بعد أن تعبر عن نفسها.