جان عزيز
شهيرة قصة المبعوث الرئاسي الأميركي أثناء أحداث عام 1958، روبرت مورفي. قيل إنه عاد ليروي لرئيسه، الجنرال أيضاً، أنه رصد في لبنان المضطرب ثلاثة أشخاص في مواقع لا تبدو تلائمهم، أو يقتضي تبادلها. فهناك بطريرك يتصرف كرئيس للجمهورية، ورئيس يتصرف كقائد للجيش، وقائد للجيش يتصرف كبطريرك.
وليس غريباً بالنسبة إلى هذا الدبلوماسي الأميركي العتيق أن يسجل مفارقة كتلك. فهو كان قد عمل في ممثلية بلاده في ميونيخ الهتلرية، وصار قائماً بأعمال واشنطن لدى حكومة فيشي في باريس، وخبر يابان ما بعد الهزيمة والأمم المتحدة في زمن نورمبرغ، وعاش ما يكفي ليشهد حرب لبنان التي قيل إنه أجّلها أواخر الخمسينيّات.
استذكار روبرت مورفي اليوم، وثلاثيته المارونية المفارقة، سببه حديث العماد ميشال سليمان الصحافي يوم أمس إلى الزميلة «النهار». قد لا تكون الثلاثية نفسها قابلة للمماثلة على المواقع الراهنة وأشخاصها الحاليين، لكن الأكيد أن كلام سليمان فيه القليل أو الكثير، من غير جانبية قائد الجيش.
وبالتأكيد ليست المسؤولية على العماد في عدم التطابق، بل هي ناتجة من تقاطع الظروف والمعطيات والأطباع في الموقعين الآخرين.
فلناحية رئاسة الجمهورية تبدو مفارقة أولى في المقارنة بـ«حقبة 1958». ومفادها أن ثمة مشكلة ما تلامس حد القطيعة بين الموقع الأول في الدولة والفريق السني السياسي الرئيسي في البلاد. لكن مع اختلاف غريب في كون التباين المذكور اليوم يجعل من الرئيس الماروني أقرب إلى الجهة العربية، فيما الفريق السني أقرب إلى الجهة الغربية، مع التسليم بأن الجهتين طامحتان إلى التدخل في الشأن اللبناني الداخلي.
أما لناحية بكركي، فالمفارقة بين صورة عام 1958 وواقع اليوم، مختلفة بعض الشيء. يومئذ كان الفتور سيد العلاقة بين كميل شمعون والبطريرك المعوشي. وكان الاثنان قد تبادلا موقعيهما. فالرئيس انتقل من «فتى العروبة الأغرّ» إلى حصان مشروع إيزنهاور. والبطريرك تحوّل من المتطوّع لتأمين «مكانس» للدولة لتكنيس بعض ناسها، إلى «محمد المعوشي» في بعض شوارع بيروت، نكاية ببعضها الآخر طبعاً. وبين الاثنين كان المسيحيون أقرب إلى الرئاسة منهم إلى البطريركية.
بينما اليوم، يسيطر الفتور نفسه على خط بعبدا ـــ بكركي، فيما سيد بعبدا لا علاقة له بالأيزنهاورية الجديدة (وبغداد دائماً حاضرة، حلفاً أو احتلالاً)، وسيد بكركي بعيد عن المحمديّة السياسية الراهنة، والأهم أن المسيحيين، في أكثريتهم المطلقة، يبدون في مكان ثالث آخر...
لهذه الأسباب ربما، يبدو العماد ميشال سليمان آخر الصاعدين في معادلة مورفي. كما يبدو كلامه كخروج عن مبدأ «الصامت الأكبر» أولاً، وكمضمون ثانياً، وكخلفيات ورسائل ثالثاً، استحضاراً دقيقاً معبّراً ومنذراً، لحقبة 1958.
لماذا هذا الكسر للصمت؟ تقول أوساط سياسية مطّلعة على وضع الدولة و«مؤسساتها» والحالة السياسية المحيطة بها، إن السبب الأول هو هذا الإحساس الجامع والمكتوم في آن، بأن ثمة أطرافاً عدة في لبنان اليوم باتوا فعلياً في مرحلة ما بعد الدولة. فالحسابات والاستعدادات والممارسات، توحي بأن هناك من أضحى عملياً في حقبة ما يلي سقوط الدولة. وفي هذا السياق ترى الأوساط نفسها أن سلسلة الأحداث المسجّلة منذ 23 كانون الثاني لا يمكن أن تكون مجرد مصادفة، بدءاً بهجوم بعض سياسيي السلطة على المؤسسة العسكرية مباشرة، بكلام قصد النيل من صدقيتها ومعنوياتها وحيادها. ليَلي ذلك بعد 48 ساعة فقط إطلاق نار بيروتي مباشر، ومن فوق السطوح حرفياً ومعنوياً، على البزة العسكرية الحامية. بعد ذلك كانت المفاجأة الخطيرة في فتح الخاصرة الجنوبية، ضغطاً إسرائيلياً متزامناً على قوى الجيش المنتشرة عند الحدود. ثم أضيفت مفاجأة أخرى، عبر تدخل جهاز تابع لوزارة «سلطوية»، في خطوة بدت قادرة على فتح ملف العلاقة بين اليرزة و«حزب الله». ليترافق ذلك كله مع حملة مشبوهة على بعض المؤسسة العسكرية، عبر صحيفة خليجية اشتهرت بحملات مثيرة لصالح جهات السلطة في بيروت، من دون استنادها إلى أي قرائن أو وقائع.
ماذا يعني هذا المسلسل؟ ترجّح الأوساط نفسها أن يكون الخط البياني المرسوم آنفاً، انعكاساً لقرار ما باستهداف مؤسسة الجيش كآخر مؤسسات النظام الموحّدة، وكضامن أكبر للسلم الأهلي في البلاد. وإذا أضيفت إلى هذا الاستهداف عوامل الضغط الأخرى، من العبء الذي يتنكّبه الجيش اللبناني منذ أشهر، نتيجة المهمات العملانية التي يضطلع بها في كل المناطق اللبنانية، إلى مؤشرات «الحرتقة» السياسية على عمله، من مواقع غير مخوّلة لا دستوراً ولا قانوناً... عندئذ قد يُفهم كلام العماد سليمان كأنه قرع لجرس إنذار هو الأكبر والأخطر والأكثر حساسية ومصيرية في الوضع الراهن.
كيف التفاعل إيجاباً مع الإنذار؟ تبدو أمثولات الـ58 صالحة بالكامل: اللاغالب واللامغلوب، والحكومة الكرامية الثانية بعد الثورة المضادة، وخيمة الحدود مقابل الخروج من حلف بغداد، وإلاّ فالانزلاق فوراً من الـ58 إلى الـ75، من دون شهابية.